شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
كلمة الشاعر
علقت - منذ نعومة أظفاري - بحب الأدب فكنت - ولا أزال أشعر بلذة غريبة حين أجلس إلى مكتبي فأقرأ مقالاً رائعاً أو أنشد قصيدة روعاء، أجد في ذلك لذة تتوغل في أعماق نفسي، ويخالجني شعور عجيب يبعث من نفسي النشوة والطرب.
ولقد أولعت منذ الصغر - بنظم الشعر وقرض القصيد، فكنت أحاول ذلك ولمّا أبلغ العاشرة من عمري - ولكنني لم أكن حتى ذلك الحين أستطيع أن أنظم أبياتاً مستقيمة الوزن على تفاعيل الخليل، وإن واتتني استقامة اللحن في أحايين.
ثم استقام لي - بعد ذلك - وأنا في العقد الثاني من عمري أن تواتيني الأبيات لا عوج فيها ولا أمتاً.
ولقد نظمت في السنوات الأولى من العقد الثاني من عمري شعراً كثيراً لم أبق عليه. كما ضاع - فيما ضاع - قصائد لعلها أو بعضها لو لم تضع لآثرت أن أبقي عليها - ولكني لا آسف على ما ضاع، فما ضاع فات، وما فات مات، وربما قدر له الفناء لأنه لم يكن ليستحق البقاء، فقصائد هذا الديوان ليست إلا وحي النصف الأخير من العقد الثاني من عمري.
وقليل هو ما نظمته في السنوات الثلاث التي مضت بعد العشرين. فهذا الديوان يكاد يكون - وحي العشرين. باستثناء قصائد قليلة أوحتها إلى الشاعر - بعد العشرين - مناسبات لم يكن له بد من التأثر بها وإن كان فيما بعد قد أصبح في شبه منأى عن الحياة الأدبية مرغماً غير مختار بحكم ما لجّ فيه من أعباء الوظيفة ومسؤولياتها.
ولقد كان من حظي أن أرث الملكة الشعرية عن والدي - رحمه الله - وتغمده برضوانه وغفرانه وأسكنه فسيح جناته - فقد كان ذا ملكة شعرية قوية أعملها في أوليات حياته فنظم قليلاً من الشعر. وكتب نثراً بمناسبات مدرسية حين كان أستاذاً، ثم أعملها في منتصف حياته بمناسبات أخرى عقب أن كان وكيلاً لرئيس القضاة ثم بمناسبات دراسية أخرى حين كان مديراً للمعارف. ولا زال من شعره نشيد ينشده طلبة مدارسنا وهم لا يعرفون وأساتذتهم لمن هو لأنه كان لا يعلن نسبة شعره إليه. ولعله وهو من صف العلماء والقضاة وشيوخ الدين كان كما قال الإمام الشافعي رحمه الله:
ولولا الشعر بالعلماء يزرى
لكنت اليوم أشعر من لبيد
والواقع أن أبي لم يكن ليعتنق هذه الفكرة على خطأ اطلاقها على عواهنها، بل ما فيها من رأي صائب أن أريد بها تفرغ العالم للشعر يتخذه مهنة ويترنح به في المجالس فإن تَوَفُّر كل ذي مهنة على غير مهنته مهين. ومُزْرٍ به بصفة عامة وخاصة العلماء. بل أعتقد أن الشافعي نفسه لم يكن يريد بهذا البيت المعنى المطلق المراد من الشعر وإنما أراد المعنى الآخر الذي يقره العقل، ويتمشى مع المنطق، ودليل هذا أن للإمام نفسه شعراً كثيراً ذائعاً عرف له وروي عنه وكذلك لغيره من أجلة العلماء مما كانوا يتأنسون به وإليه.
قلت - أن أبى لم يكن ليعتنق هذه الفكرة على عواهنها. ولكن انصرافه إلى - مهمته بما عهد فيه من إخلاص وإيمان، وكثرة مشاغل المناصب التي وكلت إليه، ومسؤولياتها ذلك ما حال بينه وبين قرض الشعر ومزاولة الكتابة، فكان من حسن حظي أن أجد أباً يستمع إلي حين أنشده (القصيدة) أو أتلو عليه (المقالة) فيكاشفني عن سروره حين يجد في ذلك ما يبعث على السرور، ويستزيدني ويهديني سواء السبيل.
وكان يلقاني هاشاً باشاً حين أفوز، ويعزيني أجمل العزاء حين يصدف عني الحظ، فأغراني بالحياة وأشعل من نفسي جذوة الأمل وملأ قلبي ثقة، وهو الذي أرواني بعصارة حياته وكلأني مبلغ جهده، وخلق في نفسي حب المعرفة لذاتها قبل كل شيء وحبب إليّ الصراع لأنه سبيل الفوز، ولكن في هدوء ورزانة كطبعه، وأناة وروية كدأبه، كل ذلك في حنكة المربي، وقدرة المعلم وحنان الأبوة. وكان معنى الفوز عنده: فوز الذات: بحصولها على أكبر قدر من المعرفة والتزامها بأكبر قدر من القيم الفاضلة، وفوز الحقيقة: بغلبة الحق على الشهوة، ورضى الله على رضى الناس، ورضى الناس في المصلحة العامة، والخدمة الإنسانية.
ولقد عشت مع أبي وحضرت مجالسه واستمعت إلى أحاديثه فتشبعت بآرائه الحرة ومذاهبه القويمة، وارتويت من معلوماته الخاصة، وفكره الثاقب وعشت بين مكتبته الضخمة فاستفدت منها، وطلبت إليه المزيد فلم يدخر جهداً وأضفت إليها من بعده ما أمكن، واطلعت كثيراً، وقرأت كثيراً، وفكرت كثيراً فكان لذلك أثره في نفسي وفكري ومن ثم في آثاري الأدبية.
فأشهد أن قد كان لأبي - أحسن الله إليه - في توجيهي الأدبي واتجاهاتي النفسية ومعلوماتي الشخصية أثر أكبر من أثر المدرسة والمعهد فيّ وأشد غوراً في نفسي من أي شيء وليس معنى هذا التجرد من طبيعتي الخاصة، وآرائي الخاصة، أو تسجيل موافقته على كل ما جاء بهذا الديوان من العواطف الشعرية والألوان الأدبية أو إغفال جهدي الخاص في تكوين شخصيتي الأدبية وفي تزويد نفسي بنفسي عن طريق المطالعة والممارسة والإكثار من مزاولة الأبحاث.
ويسرني أن أقول - أنه لم يكن من شأني أن أتخذ الشعر صناعة، والأدب مهنة، فإن قصائد هذا الديوان لم تنشر ولم يقدم منها إلا ما أشرت في مقدمته إلى ذلك، وإنما هي مناسبات أوحت إلي بهذا الشعر فقلته ولم أستخدمه حتى في بعض هذه المناسبات ولم ينطقني قط إلا شعوري وإنما الشعور كامن في قلب الإنسان. فإذا ما فاض أرسله اللسان. ولقد صدق شاعر النيل الكبير حافظ إبراهيم إذ قال:
يا من توهم أن الشعر أعذبه
في الذوق أكذبه أزريت بالأدب
ولكني آسف إذ أقول أن عوامل حياتي الاجتماعية لم تفسح لي بعد هذا الأمد القصير في عمر هذه الحياة الأدبية اللذيذة التي كنت أحياها فحرمتني من التفرغ للأدب، بل التفرغ للإنتاج الأدبي كما يجب أن يكون، وكما أحب أن يكون اللهم إلا دراسة خاطفة وقراءة عاجلة وإنتاجاً لم أتوفر عليه حتى أعطي حياتنا الأدبية بالقدر الذي كنت أتمنى والذي ألتمس في نفسي الطاقة عليه.
ولقد يرى القارئ في بعض قصائد هذا الديوان أنني عمدت فيها إلى شيء من المعارضة لفحول الشعراء - أنا - عند نفسي أهون شأناً من المعارضة لأمثالهم وأنا - حيث أنا الآن ولا أقول ذلك تقديساً للأسماء وخضوعاً للشخصيات فإنني أبعد الناس عن مثل هذا الشعور وأنا لا أستبعد على المنح الإلهية التي اقتسمتها البشرية أن يكون لي هذا الشأن أو خير منه في المستقبل - إن عاجلاً أو آجلاً - كما لا أستبعد - مع ذلك - بالمثل ألا يكون. ولكن هي محاولات شعرية أعتقد أن الشاعر لا يتسنى له أن يطرد نجاحه إلا بها. أما إذا انتقص الشاعر أو الكاتب حصيلة فكره، ورمى بها عرض الحائط وتضاءل أمام ضخامة الأسماء التي ملأت الدنيا، وشغلت الأذهان اضمحل في نفسه وصغر في عينها وأحجم عن المناوشات الأدبية والعراك الذهني، من ثَمَّ يصغر في أعين الناس ويخمد ويموت، حيث هو من خمول الذكر، وتخطى أنظار الآدميين له. وليتذكر دائماً أن هؤلاء الذين ملأت الدنيا وشغلت الأذهان أسماؤهم لم يكونوا كذلك منذ ولدتهم أمهاتهم.
وإن كان لا بد من أن أشير إلى من علقت به من الشعراء وأعجبت بشخصيته وأكبرت أدبه، وشغفت بفنه، وقرأت له الكثير، فلا بأس من أن أقول أنني قد أعجبت بكثير من الشعراء منهم النابغة الجعدي في جودة سبكه ورقة شعره، وجران العودي النميري في خفة ظله، وفكاهة قصصه، والبحتري في رقته وحسن أدائه، والمتنبي في جزالته وحكمه، والمعري في روحه الفلسفية وسلاسة تعبيره، وبشار في حلاوة بيانه وجمال معانيه، وصَرَّدُرّ في تصوره وتصويره، والبارودي في متانة ألفاظه وفصاحة لسانه، وحافظ في قوة بيانه ورصانة أسلوبه، وشوقي في ثقافته وغزله وقصصه، وابن زيدون والشريف الرضي وعمر بن أبي ربيعة وغير هؤلاء كثير، على أنني لم أفرغ تماماً لشاعر من هؤلاء ولا غيرهم لدراسته دراسة وافية يصح لي أن أقول بها أنني قد عكفت على شعره وفرغت له وتشبعت بروحه، وإلى جانب ذلك فإنني مفقود الحافظة حتى لا أكاد أحفظ لأحد منهم بيتاً، بل لا أحفظ من شعري شيئاً، وليس في هذا فضيلة ولكنه الواقع.
وبمكتبتي من الدواوين الشعرية لفحول الشعراء في الجاهلية والإسلام والعصر الحاضر ما يربو على المائة قرأتها ودرست كل شاعر منهم إلى جانب (مختارات البارودي) التي أستطيبها وأزكيها لكل قارئ أو شاعر. ولم أحاول أن أقدم شعري إلى أديب فيقوِّم معوجِّه وإنما حاولت أن أخلق ذاتي الأدبية بنفسي دون أن أستعين على ذلك بأحد تاركاً لمر الزمن وصنع الحياة بتجاربها وحوادثها وللاطلاع والشغف والاستمرار أن يُقَوِّم كُلّ ذلك من مُعْوَجّي ما لم أقْوَ على تعديله وأن يتولى فكري ويراعي بالصقل والتهذيب.
ولكني أجدني آخر الأمر - مرتاحاً إلى أن أطلب إلى حضرات الأدباء والشعراء إبداء ملاحظاتهم على هذا الأثر ولا أود أن يتخذوا من سن الشاعر مندوحة إلى التغاضي عن هفواته، وإن كنت أود أن يتخذوا إلى نقده أسلوباً يضفي عليه الصفاء والإخلاص أجمل معانيهما ليكون أشد تأثيراً في نفس الشاعر وأقرب إلى التمشي مع قواعد النقد الأدبي الصحيح.
إبراهيم أمين فودة
مكة المكرمة 1365هـ
 
طباعة

تعليق

 القراءات :568  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 125 من 1288
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الجمعية النسائية الخيرية الأولى بجدة

أول جمعية سجلت بوزارة الشئون الاجتماعية، ظلت تعمل لأكثر من نصف قرن في العمل الخيري التطوعي،في مجالات رعاية الطفولة والأمومة، والرعاية الصحية، وتأهيل المرأة وغيرها من أوجه الخير.