مقدمة المطلع |
|
بقلم الشاعر الأستاذ الكبير السيد محمد حسن فقي |
|
|
لما قدم إليّ الصديق الشاعر إبراهيم فودة ديوانه الضخم، أعجبت بهذا الإنتاج الجميل الصامت. وليس إعجابي لأنه إنتاج الشاعر الصديق فإني لأعرف من مزاياه ما أتمناه لكثير من الشباب، وإنما أعجبت بهذا العزوف عن الشهرة والرغبة عن الشنشنة والضجيج، فإن لدينا من الشعراء من أقاموا الدنيا وأقعدوها دعاوة لأنفسهم ولشعرهم وهم لم يبلغوا معشار ما بلغه الأستاذ فودة لا من ناحية المكانة الشعرية، ولا من ناحية الإنتاج الغزير، ولقد بلغوا بعض ما يريدون فاستحوذوا على نصيب من الشهرة لم ينله شاعرنا بعد وإن كنا نعتقد أنه بديوانه "مطلع الفجر" سيزيح كُثْراً منهم عن الطريق، وسينال بعمله هذا العظيم ما لن ينالوه بالزمر والتطبيل.. هي سنة الحياة.. قد يخدع البهرج قليلاً، ولكنه لن يخدع طويلاً.. وقد يخبو نور الحق فترة من الزمن ولكنه سرعان ما يبدد السحب ويسطع نوره إلى كل مكان. |
ولعل في طبع الأستاذ الفودة ما ساعد على تأخير ذيوع صيته بين الناس كشاعر فهو صموت منزو مترفع ينطوي على نفسه ولا يمنح صداقته إلا القليل من الناس يصطفيهم بعد خبرة
(1)
طويلة وامتحان عسير.. وهذا العصر عصر إعلان عن كل شيء.. في دنيا الفكر والشعور وفي دنيا المادة والمتاجرة وعلى من ينشد السبق أن يعلن عن نفسه (بالبنط العريض) وعلى الصفحات الأولى من الصحف السيارة وبشتى وسائل الإعلان والترويج بعد أن يدفع الثمن!! وما شاعرنا بواحد من هؤلاء وإلا لدانت له الشهرة من قبل واكتسح اسمه كثيراً من الأسماء. |
لنصبر قليلاً مع الشاعر المستأني فإنه ما يزال في اليفاع، وسبيل الشهرة أمامه لاحب، ولنلق نظرة على "مطلع الفجر" هذا الديوان الحفيل، فسنجد أن الشعر الذي حواه شعر جمع إلى حيوية الشباب وتدفقه وتوثبه حكمة الشيوخ وتجاربهم ونضجهم. فهو رصين خفيف.. هادئ ثائر.. منطلق متحفظ، وهو إلى ذلك سجل جامع لأبرز الحوادث التي طافت بذهن الشاعر وأحاسيسه وتحدث عنها الناس حين وقوعها أحاديث كثيرة متباينة. وما نعني بذلك - كما قد يتبادر إلى بعض الأذهان - أنه شعر مناسبات بالمعنى المفهوم لهذا النمط من الشعر أو النظم على الأصح، ولكننا نعني جادين أن الشاعر قد لابس هذه الحوادث واندمج فيها بفكره وشعوره فتأثر بها كما يتأثر الإنسان بحوادثه الخاصة التي تستثير شعوره وتلهب وجدانه وتشحذ فكره ثم سجلها بريشة الفنان لا بيراعة المؤرخ، وهي ميزة تسلكه في عداد الشعراء الفحول على حداثة سنه وطراوة عوده. |
ومعظم شعره الذي يطالعنا في هذا الديوان يتميز بالجزالة وإشراقة الديباجة وتسلسل المعاني وتساوقها وعمقها.. لا تقوم على السطح وإنما تتغلغل إلى بعيد. |
ويمتزج الشعور بالفكر في شعر الشاعر أحياناً حتى لتخال الفلسفة شعراً والشعر فلسفة، وكأنما تتذوق رحيقاً شهياً تضافرت العاطفة والفكر على اعتصاره، فليس له من ضريع في المتعة والفائدة. |
ويتلمس الشاعر مثله الأعلى في الشعر عند النابغة الجعدي وجران العوْد وصردر والبحتري والبارودي وحافظ إبراهيم.. وهم نخبة
(2)
من الشعراء الأفذاذ لكل واحد من أفرادها ميزة خاصة وطابع فريد.. أو كما يقولون في التعبير التجاري "علامة فارقة" ولكنهم جميعاً من ذوي الأساليب الشعرية الناصعة النابضة بالحياة على اختلاف ما بينهم من جزالة ورقة. |
وهو شديد الوفاء لأبيه، شديد التأثر به، والإكبار من شأنه، ولذلك اتسم شعره بشيء غير قليل من الوقار والتحرج من الدنايا، فقد كان أبوه رحمه الله من خيرة من عرفنا من العلماء العاملين الذين انتفع بهم الشباب واقتفى خطاهم. |
والشاعر مترفع ولكنه طموح، صامت ولكنه منتج، حيّي ولكنه جريء، محافظ ولكنه متنور. هو مزيج من السجايا التي تبدو لأول وهلة
(3)
متناقضة ولكنها ما تلبث حتى تتكشف عن انسجام وتآلف. وحتى تملك عليك إعجابك وثناءك. وهو من شعراء الشباب المبرزين الذين يرتقب لهم الناس مستقبلاً أدبياً لامعاً نستيقن أنه في سبيله يوفض الخطى ويغذ السير. |
وبعد فإن "مطلع الفجر" يشع بالنور الهادئ الذي نستقبله أول النهار ظماء إليه بعد ليلة قاتمة وهو يلفحنا بالنسيم المترقرق المنعش فنستافُه ونملأ به جوانحنا فما نكتظ من تُخَمَةٍ
(4)
ولا ضيق. وهو فجر له ما بعده من ضحى وظهيرة وأصيل. فإذا نحن لمسنا فيه هذه القوة الرقيقة أو هذه الرقة القوية فإن من الجائز لنا - وهذه الثروة الشعرية النفيسة بين أيدينا - أن نتخيل الشاعر وهو يحلِّق في سماوات عَلِيَّة فإن له من الأجنحة ما يمكنه من التحليق المتواصل ومن احتلال مكانه الرفيع بين الشعراء البارزين. |
وإذا نحن أطلقنا للقلم العنان ليوفي هذا الشاعر الموهوب بعض حقه فإنما نفعل ونحن على ثقة بأنه يستحق وبأننا ندفع به إلى الأمام في الميدان الذي اختاره ليسمعنا أفانين شائقة من القول ويفتح أمامنا آفاقاً جديدة يطالعنا منها كل طريف ممتع. |
|
|
مكة المكرمة 23-24/9/1369هـ |
|
|