بين يَدي القارئ |
هذا الديوان سبق أن طُبع عام 1369هـ وأوقفتُ توزيعه بسبب يتعلق بالظَّرف ولكثرة أخطائه المطبعية، ثم كان في التأجيل ما ملأ نفسي رضىً، فقد شملته بالتهذيب والتحذيف مرة أخيرة، وألغيت ما أردت أن أتخفف منه وأخفف عن القراء بحذفه. وإذا كنت قد ألغيت مقطعات بِرُمتها وشذبت كثيراً من قصائده بحذف أبيات منها وهذبت بعض أبياته فهذا لا يجعله صورة لغير مرحلته وإن جاءت صورة مهذبة لها، فهو صورة لشاعر الأمس - في - وليس صورة لشاعر اليوم، ولكني راض عنه الآن صورة لعمره وزمانه. |
وبعد: أقدم هذا الجزء الأول (مطلع الفجر) على حسب ترتيبه الموضوع صورة لشعر الشاعر بكل ألوانه في الفترة بين الخامسة عشرة والسابعة والعشرين من عمره. وأقدم الأجزاء الأربعة التي تليه (مجالات... وأعماق) و (صوره... وتجاريب) و (حياة.. وقلب) و (تسبيح وصلاة) وهي تمثل شعره في المرحلة بين الثامنة والعشرين والثانية والستين (هـ)، وقد راعيت في تجزئة حاصل هذه المرحلة التيسير على القارئ من حيث الحجم، واتخذت لكل ديوان طابعه الذي تعنيه تسميته. |
وهذه الأجزاء أيضاً لا تحتوي على كل خاطرة نظمها الشاعر يوماً وإن احتوت أكثرها، وإنما تقتصر على ما رضي به أثراً باقياً له ثم لم يبق غيره في مكتبته لنفسه. وأعتقد أن شأنه في ذلك شأن كل شاعر يحاول أن لا يظهر الناس إلا على ما يرضاه لنفسه ولهم. ولعل في بعض ما يرضاه ما لا يرضى عنه الناس بعد. ولكن ذلك منتهى حقهم عليه وقد جهد في أن لا يشغلهم إلا بما رضيه بعد إمعان وتهذيب. |
وإن كان الشعراء قد سكتوا عن هذه المعاناة الفنية.. إما لأنها حقهم وواجبهم.. وإما خشية أن يغض ذلك من جلالة فنهم في عيون القراء. ولكني أعترف بها استعمالاً للحق وقياماً بالواجب وإرضاء للفن، ولأؤكد أن المعاناة والتدبر والإمعان والتهذيب ليس عيباً وإنما العيب في غير كل ذلك. بل إن من معاني "الفن" في اللغة العناء. |
على أن هناك من شعر الشاعر في المرحلة الثانية - ما لا يزال في مكتبه يرضاه ويحرص عليه ويعتز به، وسيطالع القراء به فيما بعد حين يجد له الوقت. |
والشاعر صَناعُ فن، مَثَله في ذلك مَثَلُ الموسيقار والمثال والمصور، يقدم للناس صوره الفنية غير مسئول عن أن يقدم لها تفسيراً، وعلى السامع أو الناظر أن يتلقى الصورة على النحو الذي يبلغه حسه ووعيه، ومن حقه أن يضعها من نفسه حيث شاء وعلى الناقد والدارس بعد ذلك أن يتلمس لنفسه ما يهيئ له أسباب الحكم والتفسير. |
والشاعر لم يتكلف اللغة ولم يغرب الأداء حتى حين استعمل ألفاظاً غير شائعة الاستعمال اليوم فإنه لم يستعمل قط كلمة نابية عن السمع الحديث ولا مستكرهة في ذوقه وإنما دأب على إحياء ألفاظ حلوة المعنى والرنين. |
ولكني قصدت إلى أغراض ثلاثة: |
أحدها: إعطاء القارئ وتصور الناقد نماذج من أسلوب الشاعر في اختيار ألفاظه أما من حيث الصورة الكاملة والدقيقة والمحددة للمعنى المقصود أو من حيث الصور المختلفة التي تعبر عنها أو تشير إليها وتحتملها الكلمة الواحدة في موضعها سواء بأدائها الواحد أو باختلاف لحن النطق بها. |
وثانيها: إيضاح معاني بعض الألفاظ المفهومة إجمالاً في أذهان الناس أو تصويبها. |
وثالثها: تقديم معجم سهل التناول إلى القراء ورفقاء الفن الحديثين يزودهم بخلاصة ميسرة من مطالعات الشاعر وأحاسيسه اللغوية من خلال الديوان، وهو بذلك لا يدعي معرفة ما يجهلون ولكنه يتقرب إليهم بما يعرف. لذلك رأيت أن أشرح مع الضبط بالحرف عند الاقتضاء بعض الكلمات، وإلى جانب هذا فإن من الملاحظ أن هناك ألفاظاً يشيع الخطأ في ضبط النطق بها، وألفاظاً يتناولها الناس على وجهين من النطق يجعل بعضهم في حيرة بين الخطأ والصواب منهما، وقد يكسل بعض القراء عن محاولة استكشاف الحقيقة في ذلك، فأردت أن أقدم لقرائي خدمة
(1)
تعفيهم من عناء البحث وتهدي إليهم الصواب في عدد كبير من الكلمات التي ورد استعمالها في الديوان بضبط النطق على الوجه الصحيح أو الوجوه المتعددة - إذا كانت واردة على الكلمة بمعناها الواحد- أو ما يتغير به معناها إذا تغير لحن النطق بها. |
ولي فيما بعد بحث عن الشعر والشاعر، أتناول فيه قضية الشعر عامة بالدرس والرأي ثم أعرض معالجة الشاعر له وتجاريبه فيه فإما أن يجيء مؤخرة لهذه الدواوين وإما مستقلاً في كتاب. |
فإلى ذلك الحين أترك القارئ الكريم مع ما أقدم له الآن مشفوعاً بتحياتي وشكري وتقديري - راجياً أن يجد في هذه الدواوين بعض ما يطرب سمعه وينعش قلبه ويرضي لبه. |
|
|