شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
تقديم
بقلم: الأستاذ عبد الله أحمد بوقرى
تأملات في شعر الأستاذ إبراهيم فودة
لا أريد أن أتحدث عن سجايا وخصال شاعرنا الراحل إبراهيم فودة، وقد كان صدوقاً وفياً عفيف النفس كريم المحتد.. ولا أريد أن أتحدث - كذلك - عن بلاغته وسحر حديثه، وقد كان حديثه ينساب كالماء في الجدول الرقراق عذوبة ورقة وفلسفة وقوة إقناع.. فخلصاؤه وأحباؤه - ربما - وفوا هذه الزاوية وذلك الجانب بالحديث عنه.
أريد أن أتحدث عن شيء من شعره.. فقد كان شاعراً متمكناً مبدعاً يتسم شعره بالفلسفة والحكمة وما له مساس بالنفس الإنسانية.. ولو قلت عنه شاعراً فيلسوفاً، أو فيلسوف وشاعر لما جنحت عن الصواب والحق، فكلا الأمرين ينطبقان على شاعرنا الراحل، ولقد ألمحت في تأبينه أنه يُعد في مصاف المعري والعقاد وشكري - وهم من عمالقة الشعراء - من حيث المضمون وكثرة التنوع.
ولقد عرفت منه أنه يعتز إعتزازاً كبيراً بالمرحوم أديب العربية عباس محمود العقاد، وأسف أسفاً كبيراً إذ لم يُتح له أن يُقدم العقاد ديوان الفودة الأول في طبعته الأولى - 1369هـ - بكلمة إلى القراء، وقد نسيت الأسباب التي حالت دون ذلك، وعند ابنه الشاعر الأستاذ حمزة الخبر اليقين.
على أن الذين يعيبون على الشاعر - أي شاعر - إذا اتسم شعره بالفلسفة - وهذا ما كانوا يأخذونه على العقاد وينسون أن الفلسفة ليست رياضيات ونظريات وتنظير أفكار فحسب، وإنما هي - أيضاً - حكمة ونضوج فكر وروح جمالية وسعة إدراك.
وهذه أمور جلها يدخل في حياة الناس ومشاربهم، على اختلاف مستوياتهم.
وظني إذا أحسن الشاعر تصوير هذه الأشياء في شعره، فقد استطاع ترجمة الخلجات والأحاسيس والترح والمرح ومُرُّ الأيام وحلوها، واستطاع لذلك التعبير عن معاناة الناس وما يَمتُّ بشؤونهم ومشاعرهم بصلة، ولا يجب - أو يستحسن - أن يصور الشاعر في شعره الحنين والوجد والحب والهيام والصدود والوصال والهجران والغرام فحسب، وإنما يجب - أو يستحسن - أن يكون الشاعر صوت عصره، وأن يكون الشعر صورة لمعاناته.
واقرأ - إن شئت - ماذا يقول الفودة في مقدمة ديوانه الأول (مطلع الفجر) في طبعته الثانية: ((والشاعر صَنَّاعُ فن، مثله في ذلك مثل الموسيقار والمثال والمصور يقدم للناس صوره الفنية غير مسؤول أن يقدم لها تفسيراً، وعلى السامع أو الناظر أن يتلقى الصورة على النحو الذي يبلغهُ حِسّهُ ووعيه، ومن حقه أن يضعها من نفسه حيث شاء، وعلى الناقد والدارس بعد ذلك أن يتلمس لنفسه ما يهيىء له أسباب الحكم والتفسير.
وأعتقد - والقول لا زال للأستاذ الفودة - أن شأن كل شاء يحاول أن لا يظهر الناس إلا على ما يرضاه لنفسه، ولعل في بعض ما يرضاه ما لا يرضى عنه الناس، ولكن ذلك منتهى حقهم عليه وقد جهد في أن لا يشغله إلا بما يرضيه بعد إمعان وتهذيب)).
وشاعرنا يفلسف الأشياء في شعره، ويفسر عللها، ويشرح ماهيتها في صور شعرية رقيقة.
واقرأ معي هذه الأبيات من قصيدته (الحياة كفاح)، وهي من بواكير إنتاجه - ديوانه الأول مطلع الفجر صفحة 53 - :
موطني!.. هذه الحياة كفاح
وطريق الكفاح وعر المسالك
والذي عاش بالحياة رضياً
هو من راض نفسه في المهالك
فالحياة الحياة دنيا تجاريـ
ـب ومن يعشق السلامة هالك
والحياة الحياة تنقاد للعا
لم فالعلم للأزمّةِ مالك
العليم العليم من اتخذ العلـ
ـمَ سراجاً ينير دَرْبَ السالك
والجهول الجهول يرتع كالبهـ
ـيم بليل من الظلام الحالك
وعن كفاح آخر - عن الوطن في صورة شعرية أخرى، وهي صورة تغيرت - كما يقول - والحمد لله:
فداك قلوب حرة وصدور
فأنت بما شاء الفداء جرير
أيا وطناً أشرقت والأرض مظلمة
وأظلمت والدنيا بنورك نور
متى تشرق الشمس التي أنت مهدها
بأرضك حتى تستنير صدور
وتغدو بساط الخير والعدل والهدى
وما ذاك في شرع الحياة يسير
لقد كنت يوماً جنة الخلد أزلفت
وما زالت لولا أنفس وشرور
ويقول:
ولو علموا لم يزدزوه وإنما
تلقوه بالإرشاد وهو وفير
إذا أنت لم تعذر فتاك فمن له
- على ما جناه - في البلاد عذير؟!
شباب بلادي المستهام بحبها
تقدم لما ترجو وأنت بصير
لنا فيك أمال جسام كثيرة
وأنت على تحقيقهن قدير
لقد آذنتنا في الصباح بشارة
تكاد على رغم الظلام تُنير
وانظر إلى هذه الحكم الفذة وكيف تنسابُ في صور فلسفية. وفي شعر رقيق عذب:
رجعت لنفسي فازديت شبابي
وعاتبت شيبي واتهمت صوابي
فلا أنا بالأولى أخذت بحقها
ولا أنا بالأخرى ملكت خطابي
غنمت من الأولى الجهالة بالهوى
فلم أدر في الأخرى فريق ركابي
* * *
وما معنى الحياة بغيرهم؟
وهل سر الحياة غذاء جسم؟
فما صحت حياة دون حب
إذا صحت معايير الفهم!
وإن خلت القلوب فلا عقول
فحسن القلب مصدر كل علم
* * *
ليس من شيمتي ولا عاداتي
أن أباهى بالفقر أو بالثراء
فالغنى ليس سبة حين تجنيه
بكد وقدرة وإباء
وإذا ما تعذر عن واجب السعي
ففي الفقر سبة الأغنياء
* * *
غاية العيش أن تعيش كريما
فإذا كنت بلغت المراما
غير مجد - يا صاح - أن تجمع المال
على حبه ركاماً ركاما
قيمة المال حين تستعمل المال
وإلا فقد جمعت الرغاما!
* * *
حسبي من العيش ما استبقى الحياة وما
يكفي لذلك من.. رَيّ وإشباع
فليس غيرهما حظى بمائدتي
حفيلة ذات ألوان وأنواع
* * *
وحسب نفسي من دنياي أن له
من الزهادة فيها خير إمتاع
فما تنال من الدنيا وزينتها
وعيشة رغد فيها وإمراع
من رؤى ذات إشراق وإشعاع
وزخرف كسراب الدَّو خَدَّاع
* * *
فإن يكن غاية الدنيا السرور بها
وفرحة تتمشى بين أضلاع
فإن في الزهد فيها غاي طالبها
من أقصر السبل لوقد أدرك الساعي
* * *
يومان.. يوم مشرق متدفق
بشراً ويوم قاتم ديجور
هذه هي الدنيا وذي أيامنا
فيها وهذا الواقع المقدور
فإذا أمضك حاضر متجهم
فلقد يسر محجب مستور
وإذا تلقاك الزمان بوجهه
فاقصد فدهرك قُلَّبٌ وغدور
* * *
بدا الشيب يغزو لحية طال صبرها
على المر فابيضت وقد نضب الصبرُ
وما ضرني أني صبرت على الأذى
فربَّ أمر فيه يستعذب المرُّ
ولكن ما أخشاه عاقبة المدى
وقد طال حتى كاد أن ينفد العمرُ
إذا خيم الليل البهيم على الأسى
عذرت الذي قد ظن ليس له فجرُ
* * *
ضل من يحبُ الحياة شكولاً
تتنزى بها الرجال وتسعدُ
فالكراسي هي الكراسي
بفريق تهوى وآخر تصدُ
* * *
إذا ما تطلعت نحو السما
ء وغُم على العين مرأى القمر
اذلك يعني انعدام الهلا
ل؟ ألا لا.. ولكنه مستتر
وإذا لم تجد منفذاً للرجا
ء فلا يأْس مما حواه القدر
ورب أمر بعيد الوقو
ع فجئت به حين لا ينتظر
* * *
أوشك النور أن يعم فيمحو
ظلمات الشباب في مفرقيا
وإذا ما فاخر الشباب بعزم
فاخز الحزم بالمشيب وحيا
* * *
كنت يا بدر للعيون جمالاً
ذا أنت للعقول مجالا
كنت شغل القلوب تغزل مِنْ
مرآك أحلامها وتروى الخيالا
فغدوت الشغل الملح على الألـ
ـباب شدت إلى حماك الرحالا
وانبهار العقول أروع في الأنفـ
ـس من بهرة العيون حيالا
وصلوا للحبيب بعد عناء
لا أظن الوصول يعني الوصالا
ربما هان بالوصال حبيب
وحبيب يزيده إجلالا
* * *
لا تشكُ للناس همك
فتلهم الناس ذمك
واكتم عن الناس شأنك
يعظم الناس عزمك
وارفع إلى الله أمرك
ليكشف الله غمك
فالحب عشق لا قوى
لمصدر الحب أم لك
والاحترام أساس
فمن أحب أجلَّك
وما سواه فشيء
لا ترضى عنه محلك
* * *
ومن نكد الدنيا عليك وسخفها
إذا قادك الأعمى وأنت بصيرُ
وعطل من معنى الحياة مثقف
وشيدت القدم حلة وقصور
وأن يرد الماء النمير مضمر
ويورده الأفذاذ وهو كدور
ويعطي عطاء السافهين مرفه
ويحرم من قوت الفقير فقير
ويمنع ذو حق صراح ويرتوي
سفيه جهول في الورى ونمير
إذا أفضل الفضل الأصم محنكاً
وغر حصيفاً فالفضائل زور
فيا رب عجل بالفناء وبعثنا
إليك فدنيانا هوى وفجور
* * *
قد يفعل الرأي ما لا يفعل الذهب
ويفعل الرأي ما لا تفعل القضب
فالمال والسيف حدا الرأي ليس له
عنه غنى حين يغنى وينتصب
فلا تضنن بالفكر إذا عطل
عن التصرف كفُ طبعها الحب
فقد تجود برأي لست تحسبه
معنى العطاء وفيه الكسب والأرب
* * *
ثم استمع إليه بعد هذه الحكم والتجارب الحياتية إلى لون آخر إلى قصيدة شعرية في الحب مفعمة بالشفافية.. هو يصور حديثاً دار بينه وبين من يهوى بالهاتف يقول في خمسة عشر بيتاً رقيقاً:
وحدثتني - وقد مر الهزيع بنا -
وفي التعلل ما يغني عن السبب
وكان ما ليس به من حكايته
يفضي عن النفس أو يفضي إلى الرغب
وعاتبتني فقالت: لم سكت؟ فلم
تسأل وإنك في الأشعار تهتف بي؟
أتلك خلة من يهوى؟ فقلت لها
وهل يطوف بحبي طائف الريب؟!
سلي فؤادك عن حبي وأشهده
أني رضي به من حاكم أرب
لقد سألت ولم أسكت.. وحدثني
من كنت أحسبه يروي لكم حدبي
قالت: فما قال. ولكن حسبنا ثقة
أنّا عهدناك صادق الأدب
ثم أنثنت تتلقاني دعابتها
والحلو حلو وإن يَزْوَرّ بالنضب
وما ستفعل بعد الآن؟ هل خبب
إلى سريرك أم للشعر والكتب؟!
فقلت: أيهما أحفى لديك به
الشعر؟ أم راحة الجثمان من تعب
قالت: وللشعر عندي الراح ريقه
والروح من كبد الأيام والنصبُ
إن شئته زفرة فرجت ضائقة
أو شئته نرسمه أزريت بالكرب
فاشرب من الشعر راح الروح صافية
صهباء أنت أبوها إلا إبنة العنب
فقلت: ما الشعر إلا ما نطقت به
وكل ما فيك شعر فائق الطرب
قالت: شعرت؟ فقلت: اليوم فاتنتي
وقد رويت لك الأشعار عن كثب
وثمة قصائد في الحب أخرى تذوب استيداعا وشوقاً وحناناً ووجداناً وتنبئ أن صاحبها يمتلك حساً مرهفاً وقلباً أسبقاً ونظرة حانية، ويمتلك مع ذلك ناصية الكلمة، واللغة الشاعرة طوع يمينه، وقد أفرد للحب ديواناً كاملاً ضخماً أسماه - حياة وقلب - تغنى فيه بسمو وترفع ودون مجون أو ابتذال، تغنى بالحب وأسراره والغيد الحسان، ناجي فيه العيون الناعسات الحالمات والأحداق النجل الكسالى الأجفان. كما تغنى بالأب البار العطوف، والأم الرؤوم الحنون، والزوجة الوفية الصبورة.
وأخيراً ينطبق على دواوين شاعرنا الأستاذ إبراهيم أمين فودة وهو صاحب خمسة دواوين مطبوعة - وقد يكون ثمة جزء سادس وسابع - ما قاله الأستاذ عبد الرحمن صدقي في الشاعر العملاق عباس محمود العقاد وهو صاحب عشرة دواوين من الشعر الفلسفي الوجداني الخلاق: ((ولقد طلعت دواوين العقاد في سماء الأدب العربي لا كما تطلع في الفضاء أيام الأعياد أسهم الألعاب النارية في تفانين إشكالها وشآبيب أنوارها تخطف الأبصار ويتلهى بها الصغار والكبار ساعة من الزمان ثم يطويها الظلام.. بل كان طلوع الديوان منها بعد الآخر طلوع الأنجم الزواهر، يستطلع فيها الراصد المراقب مطالع من الكواكب لا عهد له بها، فلا يسعه بعدها إلا أن يترصدها كل ليلة ويتفقدها ويراجع النظر فيها)).
وقبل أن أختم حديثي هذا الموجز عن شعر الأستاذ ((الفودة)) وشعره بحر لا ساحل له.. المح إلى أنني زرته في داره وكان ذلك قبل أن تأتيه المنية ويلحق بالرفيق الأعلى بفترة قصيرة.. وكان متأثراً بمرضه تأثراً كبيراً.. ناهيك عن الأزمات التي كانت تلم به ويمر بها.. وتجاذبنا الحديث عن الشعر وماذا في حقيبته من جديد.. وأعتقد أنه قد أفرغها من دواوينه.. فلم يستحصل عليه اقتناص حركه.. ولم يفته اثبات تجاربه فكأن حاله يقول: ما قاله الشاعر اللبناني الكبير الأخطل الصغير في يوم أن كرم في بلده لبنان، وكان لبنان ينعم في عافيته ويتباهى بحضارته.
اليوم لا شمسي ولا قمري
ذا يغني على عود بلا وتر
ما للقوافي إذا جاذبتها نفرت
محت شبابي وخانتني على كبري
كأنها ما ارتوت من مرضي ودمعي
ا غذتها ليالي الوجد والسهر
فليرحمك الله يا شاعرنا الكبير وقد كنت بحق شاعراً كبيراً جريئاً مبدعاً سوف نتباهى بشعرك مدى الأيام؟!
عبد الله أحمد بوقرى
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1219  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 6 من 1288
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاثنينية - إصدار خاص بمناسبة مرور 25 عاماً على تأسيسها

[الجزء الخامس - لقاءات صحفية مع مؤسس الاثنينية: 2007]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج