كلمة الناشر |
الحمد لله الكريم المنّان، والصلاة والسلام على من كان خلقه القرآن، وعلى آل بيته الكرام الطاهرين، وصحابته الغر الميامين. |
يطيب لي أن نقف اليوم مع الأعمال الكاملة لأديبنا الكبير الأستاذ إبراهيم أمين فودة ((رحمه الله)) والتي يأتي معظمها في رياض الشعر، فقد تتلمذ أستاذنا على يدي والده فضيلة الشيخ أمين فودة، قاضي قضاة مكة المكرمة، كما تتلمذ لاحقاً على المستوى العملي والإداري على معالي الشيخ محمد سرور الصبان، وأحسب أن هذه التربية الصارمة قد جعلت أستاذنا الفودة ينظر إلى الشعر بشيء من الحذر رغم أنه بدأ قرضه في بواكير شبابه، إلا أنه لم يسع بشكل من الأشكال إلى تبوء مكانة مرموقة في عالم الشعر، بل ترك الأمور على أعنتها، ونشر دواوينه الخمسة تباعاً بعد أن حذف منها ما اعتقد أنه لا يناسب منهجه في الحياة، وذلك في إطار نقد ذاتي قبل أن يدفع بها إلى المطبعة حيث تصير ملكاً للقارئ وليست في يد المبدع. |
وقبل التوغل في مسيرة شاعرنا الكبير ((رحمه الله)) لا بد من الإشارة بكثير من التقدير إلى القراءات النقدية التي قدمها الأساتذة الأفاضل محمد حسن عواد، وضياء الدين رجب، وحسن عبد الله القرشي ((رحمهم الله)) في سياق هذه الأعمال الكاملة، فهي تشكّل جزءاً لا يتجزأ من المرحلة والبيئة الثقافية السائدة في ذلك الوقت، وترسم المعايير المرتبطة بالكلمة وفنون إبداعها بعيداً عن التحيز لجهة ما غير الأصالة وحب الإبداع وتكريس الجهود لتقديم ما يبقى ثابتاً ويواجه عوامل الزمن وإرهاصات التجديد على دعائم راسخة من القوة والتمكين. |
إن هذه الرؤية النقدية لم تكن تجاوز عقلية المبدع، كما أنها لم تنل من مقدرته على الانطلاق نحو آفاق أرحب في رسم الصور والأخيلة الفريدة والأنماط المبتكرة للتعبير عن الذات من خلال تجارب حية تنداح دوائرها وتتكشف أستارها ضمن أغراض الشعر المختلفة من وطنيات، ومديح، ورثاء، وغزل، ووجدانيات، وإخوانيات، كان الشاعر يتنقل بينها بكل سلاسة وبلغة ميسرة بعيدة عن الغريب والمبتذل، مع محاولاته المستمرة لشرح ما يعتقد أنه يفوق فهم وإدراك القارئ العادي.. واضعاً نصب عينيه أن المبدع ينبغي أن يقود المجتمع نحو الرقي في استخدام اللغة بدلاً من الهبوط إلى مستوى العامة والسوقة في التداول اليومي للغة.. وبما أن تربيته وبيئته حتمت عليه التعامل باللغة العربية الفصحى بصورة يومية في معاملاته داخل أسرته ونطاق عمله، فلم يجد صعوبة في التعبير عن مكنون ذاته شعراً أو نثراً وكأنه ينجز خطاباً طبيعياً بين ذويه ومعارفه وأصدقائه. |
ومن ناحية أخرى قد يرى البعض أن شاعرنا الكبير ((رحمه الله)) كان صاحب شطحات في ما يتعلق بوصف الطبيعة والميل نحو مدارس بعينها - مدرسة المهجر - على وجه الخصوص، في الوقت الذي تنأى فيه طبيعة مكة المكرمة التي ورد فيها قول الحق سبحانه وتعالى بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ (إبراهيم: 37) عن كل ما يمت بصلة إلى المروج الخضر، والروابي السندسية، والخمائل وخرير المياه، وغيرها من سمات الجغرافيا التي اخترعها الشاعر وصورها بعيداً عن بيئته الحقيقية.. فالشعر إنسان عاطفي، رقيق الشعور، جامح الخيال بطبعه، وعليه فإن مقدرته على تصوير الأمر وفق انفعالاته الخاصة لا ينبغي أن تثير الاستغراب لأنه ليس محققاً للتراث أو مصوراً فوتوغرافياً يتوخى الاحتراف بعدم تجاوز الواقع بحال من الأحوال. |
كما تضم هذه الأعمال الكاملة جانباً مهماً يتعلق بصدى علاقات الشاعر بمحيطه الاجتماعي، وتعلّقه بأفراد أسرته، وصداقاته العميقة، لذلك كانت المناسبات ذات إطلالة مميزة في كثير من قصائده، واستطاع أن يسجل لنا شعراً الكثير من الأحداث الخاصة أو العامة التي لها علاقة بتاريخ هذا الكيان الحبيب، ومما لا شك فيه أن ثقافته الواسعة وعمله كأول مدير للمديرية العامة للإذاعة والصحافة والنشر منحه موقعاً مميزاً لمتابعة الأحداث الجسام التي مرت بالأمة، خاصة قضاياها المصيرية ممثلة في قضية فلسطين، ومحاربة الاستعمار في كثير من الدول العربية والإسلامية ومن أهمها ثورة الجزائر، وحال الأمة الإسلامية بصفة عامة، مبدياً تعاطفه الطبيعي لما يجيش في صدور المواطنين والقادة في كل مكان. |
ومع أن شاعرنا لم يترك الكثير من الأحداث التي مرت به في حياته اليومية تمر مرور الكرام، حرص على تسجيلها شعراً ولو ببيت أو بيتين، إلا أن زفراته الحرى تسامت أيضاً مع مطولات معروفة مثل قصيدة ((البردة)) للإمام البوصيري، فجاراها على ذات الروي والقافية، وأضاف الكثير من الشعر الوجداني أثناء زياراته المتعددة إلى المدينة المنورة، على ساكنها أفضل الصلاة وأزكى التسليم، فكانت وقفات مترعة بالمشاعر التي تهز الوجدان وتسطر تلك الرحلات الخالدات في صحائف النور. |
وقد تجلّت أقوى أواصر العلاقات الإنسانية في قصائد الرثاء التي سكب من خلالها أروع معاني الوفاء لمن فارقهم بقلب تملؤه اللوعة، وتتجاذبه العواطف، ونوازع الخوف والرجاء، فكانت قطعاً من فلذات الكبد الحرى تتقلّب على الورق وكأنها تتنفس الحزن رغم مرور السنوات، ذلك أن العاطفة المترعة التي غذتها كانت صادقة كل الصدق، بعيدة عن دنس الدنيا ومطايا النفوس الضيقة.. إنها الوداع الأبدي، الذي يطوي في طريقه كل شيء، ولا يبقى إلا العمل الحسن والذكرى العطرة بين الجوانح. |
ثم يأتي الحب الخالد الذي نشره على الملأ، ذلك الحب الذي جعله مظلته في الورى، وسار به بين الناس، حب بعيد عن سفاسف الأمور وصغائر النفوس، فكان شاعرنا كبيراً بعاطفته الجياشة، مليئاً بأغلى ما يملكه كل إنسان تجاه الآخر، وهو الحب أيضاً سواء على نطاق العاطفة التي تربط المحب بمن أحب، أو على نطاق الحب السرمدي الذي يمد الإنسان بفلسفة الكون ووشائج العلاقة غير المحدودة مع كل الكائنات والمخلوقات في كل زمان ومكان. |
ويجد القارئ الكريم (النثر) الذي سجله أديبنا الكبير في الجزء الرابع، وهو أصغر جزء في المجموعة، إلا أنه يحتوي الكثير من الرؤى المتقدمة التي تناولها بكثير من الشفافية والتفصيل.. في وقت كانت هوامش البحث والتحليل محوطة بما لا يخفى على أحد من المحاذير والخطوط الحمراء، ومن جملة ما تحدث عنه التعليم والرياضة، فقد كان مولعاً بكليهما.. ووهبهما الكثير من وقته وجهده ورعايته، فغرس طيباً، وجنى خيراً في حياته، وغنم ذكرى باقية بعد مماته، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل ما قدم في ميزان حسناته، وأن يحسن إليه بقدر ما قدم لأمته ووطنه ومواطنيه. |
سعيداً أن تأتي هذه الأعمال الكاملة بمناسبة اختيار مكة المكرمة عاصمة للثقافة الإسلامية عام 1426هـ/2005م.. إهداء لمكتنا الحبيبة، وذكرى عزيزة لإنجاز ابن من أبنائها البررة الذين تفخر بهم على مدى الأجيال. |
والله الموفق، وهو من وراء القصد.. |
|
عبد المقصود محمد سعيد خوجه |
|
|
جدة جمادى الأولى 1426هـ يونيه (حزيران) 2005م |
|
|