الموقف الذي يعري ضعف الكلمة!
(1)
|
إذا كان رثاء الرجال ليس باليسير تناوله، والحديث عنه، كما يصعب على النفوس أن تراهم راحلين إلى الدار الخالدة. |
فإن رثاء العلماء العاملين هو الحدث، الذي يصعب على الكلمة أن تتناوله، أو تحيط بأبعاده. |
بل إنه الموقف، الذي يتحدى قدرة الكلمة، ويعري ضعفها، أمام عظمة هذا الكون، الذي خلق فيه الإنسان؛ ليكون وجوده وفناؤه دليلاً؛ تتمثل فيه قدرة خالق هذه العظمة. |
وإذا كانت هذه المواقف تملأ أعماق نفوسنا بالحزن - فهي تصيب أفكارنا بالضعف، وألسنتنا بالعجز؛ ذلك ما أحسسته يوم سمعت بالنبأ المفجع لوفاة السيد محمد أمين كتبي - رحمه الله - أحد البقية الباقية ممن جمعوا بين بصيرة العلم، وطهارة السلوك، وجميل الصفات. |
ويوم أقول العلم - فإن أجيالاً، من أبناء هذا البلد الطاهر، والعالم الإسلامي؛ ممن تلقوا العلم عنه، في رحاب بيت الله الحرام، أو مؤسسات البلد الحرام، يعلمون أن فضيلته - رحمه الله - كان أحد الذين لا يبارون في علوم اللغة العربية. |
لقد كانت دروسه، في ظلال الكعبة المشرفة، منبعاً عذباً لأولئك، الذين تتطلع عقولهم، وتشرئب نفوسهم للعلم؛ يبحثون عنه في كل موضع، ويرتحلون في بقاع الأرض؛ بحثاً عن مظاهره. |
ولم تكن علوم اللغة العربية وحدها، التي تشهد بألمعية وتفرد فقيدنا الراحل؛ بل امتدت ملكاته إلى علوم الشريعة الإسلامية، التي عاش حياته مثالاً حياً لعظمتها، وسماحتها. |
ألم يكن هو وصنواه فضيلة السيد علوي مالكي - رحمه الله - وفضيلة الشيخ محمد نور سيف - رحمه الله - ثمرة تلك المدرسة، التي غذاها فضيلة الشيخ محمد العربي التباني - رحمه الله - بعلمه، وشملها باهتماماته، في فناء البيت العتيق؛ حتى أعطت عطاءها الخصب؛ فكان منها حملة علم؛ بلغوا في أماكن متفرقة. |
وفي المدرسة نفسها عرف الفقيد بقرض الشعر؛ يقوله التلميذ؛ فيباركه الأستاذ، ولم يكن غريباً - بعدئذٍ - على التلميذ، الذي أصبح شيخاً جليلاً - فيما بعد - أن يفخر، بين ثنايا ما تجيش به نفسه، من شعر، بأن يكون شيخه العربي. |
لم يكن فقيدنا - رحمه الله - ناظماً؛ بل كان شاعراً، وإذا كان خلاصة ما توصل إليه النقاد، في العصر الحديث، من أن الشعر، من حيث مفهومه، أصبح رسالة سامية؛ يتنزلها الشاعر من عالم الروح؛ ليؤديها بين الناس؛ فإن شعر فقيدنا كان ممثلاً لهذه الرسالة. |
لقد انسابت روحه الشفافة فيما أبدعته ملكته الشعرية؛ فكانت قصائده نشيداً إيمانياً؛ يحمل رسالة الحب والإرشاد. |
الشعر الذي يحلق بالنفس في ربوع الهدى، ويطوف بالفكر في أعماق التاريخ الإنساني، ثم يظل؛ من حيث جوهره، شعراً تطرب إليه النفوس، إذا أُنصت إليه، وتردده الشفاه، دون أن تحسّ مللاً في ذلك الترديد. |
لقد عرفت شخصه - رحمه الله - يوم كنت طالباً بكلية الشريعة بمكة المكرمة؛ لقد جلست إليه، يوم تقدمت به السن، ولكنه كان مواظباً على حضور الجماعة في بيت الله الحرام؛ فلم أحظ يومها بالجلوس إليه طالباً منتظماً، ولكنني وجدت - في حديثه ونصائحه - الصورة الإيمانية، والقدوة الصالحة. |
وهذا ما يدعوني - اليوم - أن أشارك بهذا اليسير، في رثاء هذا المعلم البارز، في حياتنا الفكرية. |
ولكنني أعلم أن ثمة جملة من العلماء والمفكرين، ممن هم أجدر مني في تناول هذا الموضوع، قد يشاركون بالكثير؛ ومنهم فضيلة الشيخ محمد متولي الشعراوي، والسيد محمد علوي مالكي، والأستاذ عبد العزيز الرفاعي. |
رحم الله الفقيد رحمة الأبرار، وجعل في خلفه الخير والعوض. |
|