المشروعات الفكرية والثقافية
(1)
|
تحقق المشروعات الفكرية والثقافية أهدافها بمقدار إيمان القائمين عليها بالمنطلقات النابعة من تراث الأمة، والمتجذِّرة في نفوس أبنائها. |
يضاف إلى ذلك قدرة هذه الأعمال على تحقيق التوازن الفكري في مجتمعاتها، لأنه لا يمكن لأي مجتمع في هذا الوجود أن ينفصل عن تاريخه، ويهرب من ماضيه، ويتبرأ من تقاليده؛ كما لا يمكنه - أيضاً - أن يغمض عينيه عما حوله من تيارات فكريّة، ورؤى إبداعية أخرى فيها من الغثّ ما يجب الحذر منه، وفيها من الومضات النيّرة ما يمكن الاستفادة منه، ودمجه ضمن الخبرات العلميّة لهذا المجتمع، وإعطاؤه الروح المميزة له؛ حتى لا يصبح نشازاً في المنظومة الفكرية التي يختصّ بها هذا المجتمع؛ دون سواه، وتمنحه تفرّده، وخصوصيته. |
ولا شك أن ((ملحق التراث)) بهذه الصحيفة الغرَّاء - قد فطن - من بين الكثير من الملاحق الثقافية الأخرى - إلى ضرورة تحقيق التعريف بالتراث الإسلامي والعربي. |
بيد أنه لم يتوقف عند هذا التعريف مؤمناً بضرورة الإنطلاق منه لتحقيق تصور كامل لما يجب أن تكون عليه وضعية الفكر والثقافة العربية؛ في هذا العصر الذي عرف بعصر المعادلات الصعبة أو الحرجة. |
ولعل نسبيّة فهم هذه المعادلات هي التي أوقعت بعض الملاحق في شرك الثقافة المستوردة متناسية أن الفكر لا يمكن استيراده كما تستورد المواد الجاهزة، ثمّ استنباته في أرض غير أرضه، وأجواء تتباين عن أجوائه الطبيعية؛ فإذا هو يذبل كما تذبل الأوراق في الخريف، ويتساقط بين الأرجل؛ فلا يعبأ به أحد؛ لغربته وشذوذه، وإن كانت هذه الملاحق تعرف مسبقاً - مصير مثل هذه الجهود؛ التي تبذلها بحماس مستغرب في سبيل إيقاف هذا الفكر على أقدامه؛ التي يمكن وصفها بأنها أقدام اصطناعيّة؛ سرعان ما تخذل صاحبها وتدفع به إلى التشتت والانفصال عن واقعه الذي يعيشه. |
و((ملحق التراث)) آمن - منذ البداية - بأنَّ ارتداء الأزياء المزركشة قد يخدع الأبصار ولكنه لا يستطيع النفاذ إلى البصائر المستنيرة التي تستطيع أن تميز بين الأصيل والزائف من أشياء هذا الوجود، وحيث يوجد الحسُّ الخالص الذي أودعه الخالق في نفس الإنسان؛ ليبصر على هديه معالم الطريق، ويحدِّد به وجهته التي يسعى لبلوغها دون توجس أو تردّد. |
وارتداء الأزياء المزركشة الذي رفض منطقه هذا ((الملحق)) هو الذي حفظ له كينونته، وصان له وجوده. |
والحفاظ على الكينونة مطلب حضاريّ تؤمن به جميع أمم الأرض، وتحترم المتشبثين به، وتحتقر المفرِّطين فيه. |
ولعلي لم أنس - يوماً - تعليق أحد الأساتذة الغربيين المتخصِّصين؛ في الأدب العربي، والتاريخ الإسلامي؛ بجامعة (لانكستر: Lancaster) البريطانية وهو الدكتور (ديفيد وينز: David-Wains) على نوع من الشعر العربي الحديث؛ الذي يسعى أصحابه جاهدين بأن يكون صورة مطابقة للشعر الأوروبي؛ حيث استمع الأستاذ ((ديفيد)) إلى هذا الشعر في أحد المهرجانات التي كانت تعقد - في كل عام - في بعض البلاد العربية. |
لقد قال لي يومها: ((هل عقمت الأرض العربية أن تنتج شعراء يبدعون شعراً عربياً خالصاً في لغته وصوره وموسيقاه؛ إنَّ هذا الشعر؛ الذي سمعته لم أجد فيه رائحة الشرق التي أعرف عند زيارتي لحواضرها الكبيرة)). |
وأضاف هذا الباحث الغربي يقول: ((وهو أيضاً - أي: الشعر - مسخ عن الشعر الغربي؛ وليس فيه من فكرنا الغربيّ إلا صور باهتة: تبعث سامعيه من الغربيين على ازدرائه، والخروج من القاعة عند قيام هذا الصنف من الشعراء بإلقائه على الآخرين)). |
ولعلَّ مكمن الدَّاء - في رأيي الخاصّ - ليس في هذا الشعر بقدر ما هو في مبدعيه؛ الذين لم يحسنوا؛ كما أحسن رصفاؤهم من أدباء وشعراء دول أمريكا اللاتينية في استيعاب معنى المعاصرة أو الحداثة (Modernity) ففهم هؤلاء لها كما عبَّر عنه الكاتب - (Octavio Paz أوكتافيو - باث) والفائز بجائزة ((نوبل)) للأدب لعام 1990م؛ وذلك في محاضرته التي ألقاها في مدينة ((استكهولم)) في 8 ديسمبر 1990م؛ في مؤسسة ((نوبل)) نفسها بمناسبة تسلّمه للجائزة العالمية. |
وبما أن ((باث)) ألقى محاضرته بلغته الأصلية الأسبانية التي يعتز بها فإن الملحق الأدبيّ لصحيفة ((التايمز)) البريطانية اضطلع بمسؤوليّة ترجمتها إلى اللغة الإنجليزية. |
لقد عبَّر ((باث)) عن هذا الفهم قائلاً: ((عندما يكون هناك جسر بين التراث والمعاصرة فإن الأخيرة تكون قادرة على إمداد الأول بمقومات الحياة؛ بينما يستجيب التراث إلى هذا العطاء بمنح العنصر الآخر في العملية الأدبية؛ العمق والجاذبية)). |
ثم مضى يقول: ((لقد اكتشفت بعد بحث متواصل في مصادر المعرفة إلى أن المعاصرة لا توجد في الخارج؛ ولكنها تكمن في دواخلنا)). |
(T. L. S/December 21-27-1990/P/1384) |
لقد كان فهم أدباء أمريكا اللاتينية لتراثهم فهماً واعياً، واعتزازهم به، والتفاتهم إلى أعماق نفوسهم؛ بكل ما تزخر به هذه النفوس من وعي بالذات، وثقة بمعطياتها التي اكتسبتها من تجاربها النابعة من ثقافتها وتراثها. |
لقد كان هذا كله هو مصدر إعجاب الغرب - مؤسسات وأفراداً - بتجاربهم الأدبية، وانكبابهم على مطالعتها؛ لأنها تعكس ثقافة في مضامينها عن ثقافة الغرب، وتمثل تراثاً يتنفس في أجواء طبيعية لم تفسدها بعد ماديات الحضارة الحديثة، ويتخلَّله روح عفوية منطلقة لا تعترف بالحدود الاصطناعية؛ التي كان وراء تفشيها الفهم الماديّ المحض. |
لقد كان هذا هو فهم أدباء أمريكا اللاتينية للتراث، وما يقابله من مصطلحات أخرى؛ وهو فهم مكَّن لهذا الأدب أن يخترق الحواجز الجغرافية، ويتجاوز الحدود الإقليمية؛ فرحَّب به الغرب، وأفسح له في جميع مراكز الثقافة، وحقول الأدب، ووسائل الإعلام. |
بينما كان نصيب الأدب العربيّ المتقمِّص لروح غريبة عنه، والباحث عن ذاته في ذوات الآخرين، والعاجز عن تقديم ثقافة في ردائها الحقيقيّ، وبملامحها الطبيعية - كان نصيب الرفض؛ فهو لم يستطع الجلوس جنباً إلى جنب مع الآداب العالمية الأخرى؛ فهو ينطبق عليه - في نظر روّاد هذه الآداب - تلك المقولة الشهيرة التي وصف بها ((الصاحب بن عبّاد)) أدب الأندلس عندما قرأ عقد ((ابن عبد ربّه)) وهي: ((هذه بضاعتنا ردَّت إلينا)). |
لقد أفلح هذا ((الملحق)) في أن يكون له شكله المميز؛ ليس فقط فيما يتصل بالصفات الظاهرة، ولكنه يمتد إلى العمق، ويصل إلى المضمون؛ وهذا هو التحدّي الحقيقيّ الذي تواجهه ثقافتنا في هذه الحقبة، والامتحان الذي يجب أن تتجاوزه بروح القادر على صنع الفكر الحيّ، وبعزيمة الواثق من قدراته وإمكانياته الأدبية والفنية. |
ولكن هذا المدى الذي استطاع ((الملحق)) بجهود الزميل الفاضل الدكتور محمّد يعقوب تركستاني، وتشجيع القائمين على شؤون هذه الصحيفة، أن يبلغه: لم يكن في نظر المحبيِّن لهذا المنبر كافياً فهم يطمعون في اعتناء ((الملحق)) بنشر دراسات عن تراثنا الأدبي الحديث بكل صنوفه؛ توضح جيّده من رديئه، وأصيله من زائفه، ويأملون أن يمتد نشاط ((الملحق)) لنقد الدراسات الاستشراقية في حقول التاريخ والأدب، وأن يكون نقد هذه الدراسات مستنداً إلى أصول علمية؛ لتوضيح ما لها وما عليها؛ فلقد ملَّ القارئ الغربيّ من مادح لا ينظر إلى الأشياء إلا بعين الرِّضى والإعجاب تدخله - عن قصد أو غير قصد - في دائرة الاستلاب، وقادح يحمله قصور ثقافته ومحدودية إطلاعه على التقوقع والانزواء؛ مما ينعكس سلباً على فكر الأمة، وثقافتها التي لا تستغني عن التجديد الواعي والاتصال المتكافئ والمنضبط. |
على أنه يجب علينا أن نعترف أن الخروج من هذا المأزق ليس بالأمر الهيِّن، والمطلب السهل، ولكن عزائم الصادقين من أهل الفكر، والواعين من روَّاد المعرفة، أقوى من عوائق الطريق، وأقدر على السير - بتوفيق من الله - في منعرجاته، وتجنب مزالقه، ولقد نجح الأوائل من روادنا في اجتياز مثل هذه المعادلة، وما أجدرنا بمحاولات تقودنا لمثل نجاحاتهم. والله وليّ التوفيق. |
|