تناقضات مشروع محمد أركون الفكري
(1)
|
كتب هاشم صالح بجريدة ((الشرق الأوسط)) في عددها الصادر يوم 19/7/2001م، مقالاً يدافع فيه عن منهج محمد أركون في دراسة الفكر الإسلامي، مبرراً لأركون اتهامه للثقافة العربية بالجمود والانغلاق والتعصب. |
إلا أن ما ساقه هاشم صالح من أدلة على أن أعمال ((أركون)) ليست سهلة بل هي صعبة إلى درجة أن الكاتب الذي عني بترجمة مقولاته إلى العربية لم يستطع فهمها إلا بعد مضي أكثر من عشرين عاماً، مع امتلاك هاشم صالح لزمام اللغة الفرنسية التي استخدمها أداة في كتاباته، وبالتالي فإن القارئ العادي يحتاج إلى نصف قرن أو قرن كامل حتى يعي هذه الكتابات، وذلك يعني أن الزمن سوف يتجاوز هذه المقولات، ويظل ((أركون)) غارقاً إلى أذنيه في علوم الألسنيات والسيمائيات، وغير ذلك من العلوم التي نشأت ضمن سياق حضاري محض. |
وحتى الآن لم يدرك بعض المنبهرين بهذه العلوم، بأن تطبيق مناهجها المنبثقة من خلفية اجتماعية وفكرية مختلفة لا يمكن أن تقدم المفاهيم الإسلامية، والتي لها خصوصيتها الحضارية والفكرية إلى القارئ الغربي - الذي يدرك شيئاً من مفاتيح العلوم الألسنية وغيرها - فكيف بالقارئ العربي الذي يحتاج إلى من يشرح له كيف يتعامل مع هذه المناهج، وقبل ذلك كيف يمكنه هضم ما هو داخل في صميم ثقافة وحضارة أخرى، وتبدو له هذه العلوم بمثابة أسرار مغلقة يحتاج كما ذكر ((هاشم)) إلى عقود عدة حتى يدركها، وبالتالي فإن ((أركون)) لا يختلف عن المنظرين الآخرين الذين تلقفوا مصطلحات غربية هي غريبة على فكرهم - مع وجودهم داخل المجتمع الغربي - وحاولوا ابتسارها من سياقها الخاص محاولين تطبيقها على الفكر العربي أو الإسلامي، مع الأخذ في الاعتبار أن هذا التطبيق تم إجراؤه بعد أن استنفدت هذه المناهج أو المصطلحات أغراضها في الفكر الغربي نفسه، وحلت معها مناهج أخرى، وخصوصاً إذا ما علمنا أن فرنسا التي اختارها ((أركون)) منطلقاً لأعماله الفكرية هي بيئة ((الموضات)) من وجودية وبنيوية، وقبل ذلك هي منطلق لتيارات أدبية مثل الرمزية والبرناسية والسيريالية، وغير ذلك مما أضحى تاريخاً يقرأ فقط، ومعلومات يمكن الاستفادة منها في الناحية التجريدية وليست التطبيقية. |
خصوصية الحضارة الإسلامية |
أجدني متفهماً لما ذكره ((هاشم صالح)) من أن تيار الحرفية أضر بالفكر الإسلامي وحصره في شكليات تحجب مقاصده الحقيقية التي تسعى للارتقاء بالإنسان فكراً وسلوكاً، وإن الحقبة الإسلامية التي شهدت انطلاقة الحضارة العربية والإسلامية ما كان لها أن تنتشر لولا ذلك التنوع الثقافي والفكري في داخل جسد الحضارة الإسلامية، إضافة إلى الانفتاح الواعي على الثقافات الأخرى كالفارسية والهندية واليونانية. ويجب أن نقر بأنه لولا أن الإسلام يحمل في جوهره فكراً إنسانياً عميقاً يسعى لتحرير الإنسان من كل أشكال العبودية، وتوجيهه عقيدة وفكراً نحو عقيدة التوحيد الخالص لله وحده، لولا هذه الخصوصية التي انفرد بها الإسلام لما كان بالإمكان انتشار ثقافة الإسلام وفكره في جميع أنحاء العالم، فالعرب قبل الإسلام كانت تحكمهم النعرات القبلية التي وصفها الإسلام بأنها ((مُنتنة))، وهي عبارة يجب الرجوع إليها والوقوف عندها ملياً في هذه الحقبة الهامة. |
ولقد اعترف مُفكَّرو الغرب بأن نهوض الإسلام على فكر إنساني معياره الفضيلة والتقوى، وليس اللون أو العرق والجنس، وهو أحوج ما تكون إليه الحضارة المعاصرة التي من أسوأ مظاهرها الإغراق في المادية الجدلية. وتدليلاً على ذلك يمكن الإشارة إلى ما ذكره ((أرنولد توينبي)) في كتابه القَيِّم الموسوم ((الإسلام والغرب والمستقبل)). |
يؤكد ((توينبي)) أن هناك مصدرين ظاهرين من مصادر الخطر، الأول نفسي، والثاني مادي في العلاقات الحاضرة بين البروليتاريا العالمية وبين الفئة الحاكمة في المجتمع الغربي، ومصدرا الخطر هذان هما: |
(1) التمييز العنصري. |
(2) الخمر. |
وفي مجال الصراع ضد هذين الشرين نجد للفكر الإسلامي دوراً يؤديه ويبرهن فيه، إذا سمح له بتأدية هذا الدور عن قيم اجتماعية وأخلاقية سامية، فعدم وجود التمييز العنصري بين المسلمين هو أحد أبرز الإنجازات الأخلاقية للإسلام، والعالم المعاصر في وضعه الراهن بحاجة ماسة لنشر هذه الفضيلة الإسلامية. |
إلا أنني أجد نفسي مختلفاً مع ((هاشم صالح)) في رأيه الآخر، وهو ضرورة حشد هذا العدد الكبير من العلوم الإنسانية الغربية التي لها جذورها وخصوصيتها الحضارية، ليتسنى لنا فهم الإسلام الحقيقي، فالإسلام هو دين الفطرة، وإذا كان فهو من السهل وصوله إلى القلوب والعقول بعيداً عن هذا الجيش الجرّار من المصطلحات التي سوف تغيب حقيقة هذا الفكر وبساطته وشفافيته وحسن مقاصده. |
والإشكالية الأخرى التي تحيط بمشروع ((أركون)) الفكري هي انبهاره بالثورة الفرنسية، حيث أشار إلى ذلك في المجلد الثالث من مجلة ((الأزمنة)) (العدد 14، فبراير 1989م).. ويقول ((أركون)) في هذا المنحى: ((فالعرب يمكنهم أن يفيدوا كثيراً من فرنسا، ومن التيارات الفكرية التحررية والجادة في الثقافة الفرنسية، وهنا أشير على وجه الخصوص إلى مسألة العلمنة في فرنسا منذ ثورة 1789م، ويمكن أن ينتهز العرب الفرصة لحل أكبر مشكلة مطروحة على المجتمعات العربية والإسلامية، وهم يحلونها عن طريق توليدي فكري تحليلي وتنويري داخل الإسلام والثقافة العربية، وهذا الفكر غير موجود للأسف الشديد حتى اليوم)). |
إن الثورة الفرنسية التي انتقدها المفكر الإنجليزي ((أدموند بيرك)) - وأهل الدار أعرف بما فيها - ووصفها بأنها ((تمثل تهديداً خطيراً لكل ما هو إنساني)).. ويضيف ((بيرك)) والذي كان معاصراً لهذه الثورة: ((فالثورات إذ تهدد استمرارية المؤسسات التقليدية وسلطتها باسم العقل لا تفعل إلا قيادتنا عاطفياً في وجهة لا عقلانية إن لم تكن بربرية)). |
ولعل ((بيرك)) يشير إلى ما صاحب الثورة الفرنسية من إباحة وعبثية وهدم للقيم الروحية والإنسانية، وإذا كان مفكرو الغرب يخشون بربرية هذا التوجه، فهل يدرك ((أركون)) وتلميذه النجيب ((هاشم صالح))، تلك المسافة الشاسعة التي تفصل بين حضارتين وفكرين، وإن علمنة الإسلام لا يمكن لها إلا أن تقود للدمار، بينما الإسلام هو جوهره يدعو لعمارة الأرض. |
|