الصلة بين التبشير الديني والفكر الغربي المعاصر
(1)
|
تناقلت الصحف العربية أخبار حركة التنصير التي انتشرت بصورة كبيرة في بلد كان يمثل قلعة من قلاع الإسلام والعروبة، بل ارتبط هذا البلد - ونعني به الجزائر - في أذهان شباب الأمس وكهول اليوم في جميع أقطار العروبة والإسلام بثورته الضارية ضد المستعمر الفرنسي، وهي ثورة استمدت وهجها من روح الإسلام الذي يأمر بمقاومة الظلم وعدم الاستكانة أو الخضوع، وهذا سر من أسرار الإسلام الذي لن تنطفئ جذوته، ولن يخبو نوره، وسيظل صامداً - بإذن الله - أما الهجمات الشرسة عليه كما صمد في الماضي أمام هجمات التتار، والحروب الصليبية التي تولدت عنها - فيما بعد - الهجمة الاستعمارية الشرسة والحركة الصهيونية العنصرية. |
تسلل منسكباً من النافذة العلوية يجر ذيله المنزوع شعره.. بلونه النحاسي اللامع.. وصدره المليء بالعضلات المتعارضة.. وبطنه المتماوج الضخم. |
اقترب من (سعيد) النائم على ظهره ليقبض على رقبته بيد كثة الشعر طويلة المخالب.. حاول (سعيد) أن ينهض عن فراشه ويهرب، ولكنه جثم على صدره بحجمه الهائل، وعينيه اللتين تطلقان شعاعاً أزرق ينذر بالموت. |
تململ (سعيد) وحرك كتفيه.. ورفس بقدميه.. وأدرك أن الموت آت لا محالة.. خصوصاً وأنه لا يستطيع التنفس. |
حاول أن يسعل.. فلم يستطع.. وعزم على الصراخ فكان أن صدر عنه أنين مفزع جعل زوجته توقظه وهي تسمي وتهلل: |
ـ لا بد أنه (الجثام). |
كان (سعيد) يعاني من سوء الهضم وتكرار الكوابيس المزعجة، خصوصاً عندما يلتهم جزءاً من ذنب الخروف في وجبته المسائية. |
(سعيد) لم يعرف السعادة في نومه فهو دائماً فريسة (الجثام) في نوبات يئن فيها ويصدر شخيراً مزعجاً.. ثم لا يلبث أن يصرخ صرخة مرعبة محاولاً استعادة نفسه المقطوع. |
كانت زوجته قد هجرت فراشه مضطرة إلى حجرة أخرى رغم أنها عروس جديدة.. نومها خفيف.. والنوم حوله أصعب من النوم على قارعة الطريق المزدحم في غمرة زلزال. |
* * * |
(سعيد) الذي كان في الماضي طفلاً لا يختلف كثيراً عن أطفال البلدة المنطلقين المتنقلين طوال اليوم من زقاق.. لزقاق.. لوادي يطاردون ظلال اللعب.. بشقاوة يندر أن تجدها حتى في كلاب الأزقة التائهة.. يسرقون الثمار اليانعة من البساتين.. يعتلون أغصان الأشجار الباسقة... يبللون ملابسهم بمياه الغدران الخضراء. |
لم يكن وارداً في حسبان أهل البلدة أن شقاوتهم الطفولية ستنتهي يوماً.. حتى بعد وقوع الحادث الأليم.. حيث غرق زميلهم (أحمد) في بئر مهجورة كانوا يلعبون حولها رغم تحذيرات شيوخ القرية بأن البئر مشؤومة. |
فما هي إلا أيام وعادت الشقاوة إليهم جميعاً إلا (سعيد)!! |
لقد أصابه هلع وشرود وتبدل عجيب في السلوك، جعل أهل بلدته يعتقدون أنه قد نضج قبل أوانه. |
لقد كانت جنازة حزينة.. |
حزنها أسود لن تجليه السنون عن قلب (سعيد).. لقد فكر كثيراً.. وتردد.. ولكنه عزم في النهاية على أن يسجن لسانه للأبد خلف قضبان الجبن، والكلام لا يعيد الأموات. |
لقد كان آخر من رأى (أحمد) ولاعبه.. وكان هو من أراد المزاح معه برعونة بليدة، فدفعه إلى الخلف غير مدرك بأن حافة البئر قريبة.. خداع بصري أحدثته الأعشاب. |
صرخ (أحمد) بصوت امتدت ذبذباته إلى أعماق (سعيد).. صرخة يعجز الأطفال عن تقليدها. |
تجمع حوله أصحابه... سألوه: |
ـ ما الذي حصل؟.. ليرد بلسان مرتعد: |
ـ لا أدري سمعت صوت استغاثة (أحمد)، ربما سقط في البئر! |
* * * |
صدقه الأطفال.. وأهاليهم لم يشكوا بكلامه.. حتى إن (أم أحمد) تعاطفت وتألمت لحزن (سعيد) صديق وحبيب ابنها.. فاحتضنته ليغرق في دموعها على صدرها المنتفض، ليتمنى لو تشبث بضفائرها لينجو من الغرق. |
تعاقبت الليالي و(سعيد) يعاني من ظلمة موحشة في داخله مهما أشعلوا حوله من مصابيح.. يرى في الزوايا أشباحاً.. وفي الأغطية أرواحاً.. فيدفن وجهه الصغير إلى جنب أمه كل ليلة حتى يصبح. |
كذب كذبة صغيرة ما لبثت أن تفرعت كبذرة مسحورة.. وتعالت أغصانها حتى سدت كل معبر للأمان والصدق من حوله.. اختاره الصمت.. وزاملته الوحدة.. واستراح في الزوايا البعيدة. |
(أحمد) لم ينسَ ثأره.. كان يرسل له من عالم الأرواح كل ليلة منتقماً.. مرة على شكل إنسان.. وتارة حيوان.. وأخرى مسخ لم ير مثيلاً له.. غير أنهم كانوا يجمعون على نهاية محتومة لـ(سعيد) حين يطبقون على عنقه جزاء له لإغراق (أحمد). |
جبنه لحظة جعل القصاص آلاف المرات.. حتى موقع البئر القديم المحوط بالشجيرات الحرشية والأعشاب الطويلة المسمارية لم يزره منذ ذلك اليوم الأليم. |
كان يخشى أن تلتف حول رقبته الأغصان قصاصاً لـ(أحمد).. كان يؤمن بأن روحه ما زالت تحوم هناك كأفعى مبرقشة تتقلب فوق الصخور الخضراء، وتنتظر متأهبة راغبة في الانتقام. |
لقد عرضت له ألف فرصة لزيارة البئر.. غير أنه كان يهرب عن غورها الأسود.. إلى أحضان (الجثام). |
لقد شاركت روح (أحمد) في كل شيء.. حتى في ليالي عرسه وما تبعها منعزلة وشرود. |
قرر أن يحكي لزوجته الشاكية لكل من يسألها.. غير أنه خشي على سره من لسانها المتذبذب. |
وفي ذلك اليوم الموعود استجمع كلما تبقى له من عزم... وقرر... فما الذي سيناله من نظرة عابرة عن بعد؟.. أن يقترب من الحافة.. لن يعتمد على الأغصان اليابسة الواهية في تشبثه.. لا بد من كسر جمود هذا التخوف المعشعش في عظامه كالداء العضال. |
وغربت الشمس ذلك اليوم الأصفر.. وتجمع أهل البلدة حول البئر المشؤوم.. كانت جثته المنتفخة تطفو على سطح المياه السوداء.. الباردة.. والتساؤل حائر: |
ـ لقد كان من أبرع سباحي البلدة؟!! |
رحمه الله!!. |
ويرتبط تاريخ التبشير بالحركة الاستعمارية الغربية، فلقد كان القسيس المتعصب ((زيومر))، رئيس إرسالية التبشير العربية في البحرين، أول من ابتكر فكرة عقد مؤتمر عام يجمع إرساليات التبشير البروتستانتية للتفكير في مسألة نشر الإنجيل بين المسلمين. وفي سنة 1906م أذاع اقتراحه وأبان الكيفية التي يكون بها، فوضعت هذه الفكرة على بساط البحث في ((ميسور)) من ولاية ((أكر)) في الهند، لأن هذه الولاية كانت ذات أهمية كبرى من حيث المسائل الإسلامية لوجود مدرسة ((عليكر)) هناك. |
ويوضح المفكر الألماني ((م. ك. أكسفنلد))، الصلة القوية بين الاستعمار الغربي والتبشير أو التنصير عندما يقول: ((إن نمو ثروة الاستعمار متوقف على أهمية الرجال الذين يذهبون إلى المستعمرات، وأهم وسيلة للحصول على هذه الأمنية إدخال الدين المسيحي في البلاد المستعمرة، لأن هذا هو الشرط الجوهري للحصول على الأمنية المنشودة حتى من الوجهة الاقتصادية)). |
كما تكونت في بداية القرن العشرين لجنة تبشيرية يرأسها ((اللورد بلفور)) (Arther Balfor)، والذي كان وزيراً لشؤون اسكتلندا، ثم صار وزيراً للخارجية، وعندها تمكن من إصدار ما عرف بـ ((وعد بلفور)) سنة 1917م، وقد أقر مجلس الوزراء البريطاني في 31 أكتوبر من السنة نفسها هذا الوعد. ولم يكتف ((بلفور)) بصياغة الوعد الذي ينتزع حقوق الشعب الفلسطيني ويمنحها لليهود وللحركة الصهيونية، ولكنه ذهب إلى حد تشجيع اليهود في روسيا وأمريكا على الهجرة إلى أرض فلسطين العربية المسلمة، التي كانت خاضعة للانتداب البريطاني البغيض. كما أنه دعم إنشاء فرع خاص للدعاية اليهودية داخل أروقة وزارة الخارجية البريطانية، التي تحاول اليوم أن تتنصل من مسؤوليتها إزاء الشعب الفلسطيني ومأساته الإنسانية. |
وترأس السياسي البريطاني المحافظ للجنة تبشيرية مسيحية، وحماسه المفرط لإنشاء الكيان الصهيوني، ودعمه لهذا المشروع عن طريق وزارة الخارجية البريطانية مع مجموعة من الشخصيات الإنجليزية ذات الولاء المزدوج، يوضح - من دون لبس - تلك العلاقة القوية بين التبشير والاستعمار، وعندئذٍ لا يختلف إن كان هذا الاستعمار غربياً أو يهودياً، ومن هنا يمكن تلمس البعد الديني في مسألة الدعم الغربي للحركة الصهيونية العنصرية ودفاعه عنها، وتستره على دموية وفاشية زعمائها، بدءاً من ((بن جوريون)) وانتهاء بالسفاح والمجرم ((أريل شارون)). |
وإذا كان الاستعمار في الماضي قد استغل التبشير لتثبيت أقدامه في البلاد العربية والإسلامية تحت ذريعة معالجة النواحي الإنسانية الناجمة عن تردي الأحوال الاقتصادية والاجتماعية في مطلع ومنتصف القرن الماضي، فإن الحال باق كما هو اليوم، فاختلاف المسلمين حول أمور فرعية قد يؤدي عند البعض إلى التكفير أو التفسيق أو الرمي بالخلل العقدي والبدعة.. إلى آخر القائمة التي دعا الإسلام في تعاليمه الوسطية والمعتدلة إلى وجوب تجنبها حرصاً على وحدة الأمة وتماسكها، وربما أدى هذا الاختلاف إلى قيام الحروب داخل المجتمعات الإسلامية، وما يترتب على هذا الخصام والحقد - غير المبرر على الإطلاق - من سوء للأحوال الاجتماعية، وتردي الجوانب الاقتصادية. |
ومن هذه الثغرة يدخل التبشير كوسيط بين الفرق الإسلامية المتناحرة على شكليات لا تمت إلى جوهر الدين الإسلامي بصلة، أو مصلح للوضع الاجتماعي المتدهور الناجم عن هذه الفرقة، وتمثل إرساليات التبشير الطبية خير دليل على ما ذكرناه، فلقد ذكر أحد الشخصيات التبشيرية حكاية مسلمة عنى المبشرون بتمريضها في مستشفى مصر القديمة، ثم ألحِقت بـ((مدرسة البنات البروتستانتية)) في ((باب اللوق))، وكانت نهاية أمرها أنها عرفت كيف تعتقد بالمسيح بالمعنى المعروف عند النصارى. |
وإذا كان المسلمون أفراداً وجماعات، حكومات ومؤسسات لديهم الحرص على ألا يخترق التبشير مجتمعاتهم بوسائله، التي يجب أن نعترف أنها متقدمة كثيراً قياساً على وسائل المؤسسات الإسلامية الدعوية، فإنهم مدعوون إلى التفكير جدياً في الصلة بين المسيحية كدين والحضارة الغربية المعاصرة، التي لم تتخل يوماً عن عقيدتها الدينية ومنطلقاتها المبنية على الفهم الكنسي للحياة. وإضافة إلى هذا الوعي بالمنطلق الديني المتداخل مع صور وأنماط الحضارة الغربية، فإنهم مدعوون - في الوقت نفسه - إلى إظهار وإبراز الروح الصحيحة والسليمة للدين الإسلامي، من حب ووئام وتسامح، بعيداً عن الأحادية التي تأخذ بها بعض الجماعات الإسلامية، حيث إن هذه الأحادية المرتبطة بالغلظة والشدة في أساليب الدعوة، هي المنفذ الذي تدخل منه الدوائر الغربية السياسية والمسيحية إلى وصم الإسلام بنعوت وصفات هو أبعد ما يكون عنها في تعاليمه الأصلية ومنطلقاته الحقيقية. |
وللتأكيد على صحة المقولة السابقة، فإن بحوث المستشرقين والمفكرين الغربيين في الحضارة الغربية تحذر من وحدة إسلامية تقوم على مبادئ الوسطية التي دعت إليها آيات الكتاب الحكيم. فهذا المفكر الغربي ((أرنولد توينبي)) يختم كتابه المعروف ((الإسلام والغرب والمستقبل)) بهذه المقولة المعبرة عن الخوف الغربي من يقظة الروح الإسلامية الحقيقية، يقول توينبي: ((وهناك مناسبتان تاريخيتان كان الإسلام فيهما رمز سمو المجمع الشرقي في انتصاره على الدخيل الغربي، ففي عهد الخلفاء الراشدين، حرر الإسلام سورية ومصر من السيطرة اليونانية التي أثقلت كاهلها مدة ألف عام تقريباً، وفي عهد نور الدين وصلاح الدين والمماليك احتفظ الإسلام بقلعته أمام هجمات الصليبيين والمغول، فإذا سبب الوضع الدولي الآن حرباً عنصرية، فإنه يمكن للإسلام أن يؤدي دوره التاريخي مرة أخرى)). |
هذا قول المفكر الغربي ((توينبي)) قبل حوالي ستين عاماً.. فهل نريد أن نتعلم الدرس من أعدائنا والمتربصين بنا؟!. |
|