مفكرو الغرب بين التمسك بالمعتقد والرؤية الحضارية للإسلام
(1)
|
* يُقرُّ المُفكِّر الأمريكي ((صامويل هنتغتون)) في مقاله الذي أحدث ضجة منذ عام 1993م ((صدام الحضارات))
((إن تَقسيم العالم القائم على الحرب الباردة قد انتهى، وانقسامات البشرية على أساس العُرْفِ والدِّين والحضارة تظل كما هي، وتفرَّخ صراعاتٍ جديدة، فخلال العُقود الأخيرة من القرْن العشرين، زاد عدد كل من المسلمين والمسيحيين في أفريقيا وحصل تحول رئيسي في المسيحية في كوريا الجنوبية)). |
((انظر: صدام الحضارات للمفكر الأمريكي ((هنتغتون)) بالعربية، الحياة، 16 إبريل، 1999م)). |
* * وهذا الإقرارُ بأن الدِّين يلعب دوراً كبيراً في المجتمعات الغربية، ليس بالأمر الجديد على المفكرين الغربيين الذين يعتبر ((هنتغتون)) من أبرزهم في العصر الحديث، ولكنّه الأمر الذي يتطلب أن يقف عنده بعض من المفكرين العرب الذين يسعون - ما وسعم الجهد - على أن ينبذ المجتمع الإسلامي عقيدته وتقاليده، ويلحق بالمجتمع الغربي لأن هذا الأخير من وجهة نظرهم مجتمع ((ليبرالي)) ليس للديانة المسيحية أي تأثير عليه، وهذا وهم وقع فيه أولئك الكتّاب الذين لم ينفذوا إلى أعماق هذا المجتمع ويتعرَّفوا على أنماط الحياة المختلفة - فيه - الاجتماعية والسياسية والفكرية ومدى تأثيرها بالرؤية الدينية المسيحية فيه، وقد سئل - المفكر والسِّياسي البريطاني المعروف ((إدوارد هيث)) Edward – Heath عمَّا تتميز به المؤسسة السياسية المحافظة في بريطانيا فأجاب على الفور ((إننا ديمقراطيون مسيحيون Christian democrad، كما سُئِلتْ الزعيمة المحافظة ((تاتشر)) التي ورثت الزعامة بعد هيث وهي ذاهبة إلى الكنيسة أثناء حرب ((الفولكلاندز)) (Falklands)، هل ذهابها بسبب واقعة الحرب بين ((بريطانيا)) و ((الأرجنتين))، فكانت إجابتها ((إننّا - دوماً - نصلي))، وعلى رغم اختلافها الشديد مع حزب العُمال إلا أنها كانت ترتبط بعلاقةٍ شديدةٍ مع بعض أعضائه الملتزمين بالديانة المسيحية فهي في مذكراتها التي تجاوزت ((650 صفحة)) والتي خرجت عن دار (Harper – Collins) للنشر في عام 1995م وأطلقت عليها اسم: The, PATH, To, Power، تضفي صفات القداسة والتبجيل على زعيم العمَّال السابق ((هارولد ويلسون)). فتذكر أنه صاحب مبادئ ومعلوم عن ((ويلسون)) أنه مسيحي متديِّن، وهذا سِرُّ ارتباطه بزوجة متدبنة وهي (Mary) فلقد كان والدها واعظاً في الكنيسة، وكانت تاتشر معجبة بالمتحدث باسم مجلس العموم - وهو نائبٌ عمّالي مشهورٌ - جورج توماس Thomas George، وذلك لشدّة ارتباطه بالديانة المسيحية ولإيمانه بمقولة أرض الميعاد اليهودية، وهذا الإيمان قاده في أواخر السبعينيات الميلادية لاستقبال الزعيم الإرهابي اليهودي ((مناحيم بيجن))، ولقد هدى هذا الأخير نسخة من ((التوراة)) القديمة له ومن أراد التأكد من هذه المعلومات فليرجع إلى مذكرات جورج توماس التي خرجت في عام 1985م، بعنوان ((مذكرات فيكونت توني باندي)). The, Memoris, of viscount, Tony pany، وقد نشر ((توماس)) المذكرات بعد أن ضمنت ((مارجريت تاتشر))، ((ولورد))، ويعترفُ ((توماس)) بأنه في الوقت الذي ضنّ عليه ابن مقاطعته ((ويلز)) الرئيس العمالي ((جيمس كالاهان)) بهذا التكريم، عندما كان صاحب القرار في دواننغ ستريت 1976م - 1980م، عوضته ((تاتشر)) بهذا التكريم، ولم تكن هذه السابقة الوحيدة التي كرَّمت فيها ((تاتشر)) زميلاً معارضاً لقربه منها دينياً فإنها فعلت الأمر ذاته - مع ((ويلسون))، فهو لم يكن على وفاقِ مع رفيق مسيرته في الحزب ((مايكل فووت)) فرفع الأخير قائمة بأسماء المكرمين من حزب ((العمال - بصفته - زعيماً للمعارضة 1980 - 1983م، فلم تر ((تاتشر)) اسم ((ويلسون)) بين الأسماء المكرَّمة، وعندما سألت ((فووت)) عن باعث سلوكه السلبي إزاء ((ويلسون)) أجابها ((بأن الزعيم السابق لن يستطيع بسبب ((سنه)) خدمة أهداف العُمَّال)) في مجلس اللوردات، فلم تقتنع المرأة الحديدية بهذا التبرير، فأضافتْ هي اسمه ضمن قائمة المحافظين ودعته - بحافز المنطلقات الدينية المشتركة ((المسيحية - اليهودية)) إلى ((دواننغ ستريت)) وكرَّمته فانطلق مبتسماً ومُمتنًّا لها. |
وعندما توفي ((إريك هيفر)) Eric-Heffer وكان نائباً عُمَّالياً ينتمي لليسار المتشدد، ولكن ليس مثل بعض اليساريين العرب الذين يتخلون عن دينهم، ويتنصَّلون من معتقداتهم وتقاليدهم وتراثهم، بل كان ((هيفر)) كما ذكرت صحيفة ((التَّايمز)) اللندنية ((شديد التمسُّك بالتعاليم الإنجليكانية)). |
High-Anglican ، ولقد أدَّى به هذه الارتباط العملي بالدِّيانة المسيحية - حيث كان يتردد على الكنيسة بصورةٍ دائمة - إلى تأليفه لكتاب قبل وفاته عن الدين المسيحي، توفي ((هيفر)) فشُوهدت ((تاتشر)) وهي منطلقة للصلاة عليه وعندما سئلت ما الذي ترى يربطها وهي اليمينية المحافظة بـ ((هيفر اليساري)) أجابت دون تردد ((إنه الدِّينُ المسيحي))، وكثيراً ما كانت تعطف على النائب العمالي Shinwell لأنه يهودي ملتزم. |
أعْلمُ أن هذه الأمثلة العديدة من بريطانيا وغيرها من الولايات المتحدة حيث معظم الذين حلوا في البيت الأبيض الأمريكي جمهوريين كانوا، أمْ ديمقراطيين، يعتزون بمعتقدهم الدِّيني،ولنْ نعْدم الأمثلة فذلك ((كارتر)) الديمقراطي، والآخر ((ريغان)) الجمهوري، بل إن دراسة حديثة قامت بها جامعة ((ويلز)) البريطانية وتحت إشراف البروفسور ((ويليام روبنشتاين))
((الحياة))، 15 مارس، 1999م)) أثبتتْ أن كاتب الوثيقة البريطانية المعروفة باسم ((وعد بلفور)) والتي صدرت سنة 1917م،هو يهودي سرِّي واسمُهُ ((ليوبولد أميري)) Amery، هذه الأمثلة الموثقة لن توقظ النخبة التي اعتنقت الشيوعية وأيديولوجيتها المحنَّطة من المحسوبين على أمَّة العروبة والإسلام والتي كانت شيوعية وماركسية أكثر من الشُّيوعيين والماركسيين في ((الكرملين)) في زمن الحرب الباردة، والتي ظلت تعض - مُتشبثة - بالنواجذ على ((المنفيستو الشيوعي)) وكأنها لم تتنبَّه أو تدرك أن هذه الأيديولوجيات قد أضْحتْ من مخلفات الماضي، بل إنها تثيرُ كثيراً من السُّخْف والاستهزاء في الأوساط الفكرية الغربية، كما أن هذه المتغيِّرات والحقائق لن تحرِّك ضمائر أولئك الذين تجمَّعوا خلف الجزَّار الصربي ((ميلوفيتش)) وتضامنُوا معه،وهم يُشاهدُون محرقة العصر الحقيقية التي تعرَّض لها مُسلمُو ((كوسُفو))، وكان تضامنهم مع السَّفاح الشُّيوعي على شكل وفود تؤم ((بلغراد)) ويتحدث أصحابها باسم الفكر العربي، مع أنهُ كان بإمكانهم أنْ يُلاحظوا أن الأحزاب الاشتراكية وفي مُقدمتها حزب العمَّال البريطاني قد شطبُوا مُصْطلح ((الاشتراكية)) من بيانات أحزابهم، ولعلهم لغفلتهم،وسذاجتهم، وخيانتهم لأمَّة الإسلام والعروبة لم يعرفوا أن الزَّعيم العُمَّالي البريطاني الحالي ((بلير)) كما ذكر الكاتب البريطاني ((سيريل تاونسند)) هو مسيحي ملتزم،ويأخذ في عطلة كل أسبوع أبناءه وبقية أفراد أسرته إلى ((الكنيسة)) لممارسة الشّعائر الدِّينية المسيحية. |
وإذا كنَّا بدأنا الحديث بـ ((هنتغتون)) ومقولته التي ضمَّنها هذه العبارة الهامة ((على المدى الطويل ((محمد)) سينتصر)) وهو يقصد أن التَّعاليم التي جاء بها النبيّ الخاتمُ سيّدنا مُحمَّد - صلى الله عليه وسلم - هي التي سوف يكتب لها النَّجاح والتفوق، وذلك لما تتضمنه هذه التعاليم من وسطية واعتدال إضافة إلى توافقها مع الفطرة البشرية السَّوية. |
فلا بُدَّ لنا أن نختم هذه المقالة التي تكْفي واعظاً للمُبشّرين ((بالتَّغريب)) والدَّاعين إليه من أبْناء العُروبة والإسلام، أكثر من الغربيين - أنفسهم - بما ذكره المفكر الغربي المعروف ((أرنولدتوينبي)) في كتابه المعروف ((الإسلام،والغرب، والمستقبل)) وهو في الأصل محاضرتان كان “Aronold - Toynbee” ألقاهُما في عامي: 1947 - 1952م، ففي معرض حديثه عن التَّفاعلات التي حدثت بين الإسلام والغرب، وخصوصاً - أثناء الحرُوب الصليبية التي قادتها أوروبا ضد العالم الإسلامي. يقول ((توينبي)) مُحللاً آثار ذلك الصَّراع: ((وخرج الإسلام منتصراً - كما خرجت المسيحيّةُ قبلهُ - من معركة الحياة والموت هذه، فلقد أسلم مغول آسيا الوسطى،وطرد الغزاة الفرنجة، والكسْبُ الإقليمي الدَّائم الوحيد الذي حصلتْ عليه المسيحية وهو ضمُّ المناطق الإسلامية في صقلية والأندلس إلى العالم المسيحي)). |
ويعترف توينبي - وربما لن يُسر هذا الاعتراف أولئك المنبتين عن حضارة أمتهم،و تراثها الخالد، ويتمنون لو أنَّهم كانُوا صُمًّا حتى لا تأخُذَهم الدَّهشة باعتراف مُفكر غربي يعتدُ برأيه مثل ((توينبي)) بالأثر الذي تركهُ الإسلام على أوروبا التي كانت تعي - آنذاك - عصور الظلام. |
قول... توينبي ((أما النتائج التي جناها - الغرب - على الصعيدين الاقتصادي والثقافي من احتلال الصَّليبيين المؤقت لقسم من العالم الإسلامي، فقد كان أهم بكثير من الكسب الإقليمي وتوسيع رقعة الأرض، لقد أسر الإسلام ((المغلوب))
((غالبيه)) وأدخل فنون الحضارة إلى حياة العالم المسيحي وقد كانت حياة لاتينية صدئة)). |
((انظر: أرنولد توينبي، الإسلام والغرب والمستقبل)) تعريب د. نبيل صُبْحي، ط1، 1389ه-، 1969م، ص 32 - 34)). |
|