وَمَضَاتُ عن أَدَبِ السِّيرة الذَّاتية
(1)
|
نَفَى ((عبد الحسين شعبان)) في مقالته بملحق تيَّارات ((الحياة 25 إبريل، 1999م)) والموسومة ((كتابةُ الذَّات مِنْ خلال الآخر))، أنْ يكون العَربُ عرفوا أدب السِّيرة الذي اشتهر في الغرب منذ ((اعتراف)) القدِّيس أُوغسطين قبل أربعة قرون من الزَّمن، ويبدو أنَّ الكاتب تعجَّل في هذا الحُكْم، فالعَرَبُ والمسلمون عرفوا أدب السِّيرة بما يتفقُ مع رؤيتهم للحياة النَّابعة من العقيدة والفكر الإسلامي منذ أمد طويل و((كتاب)) الاعتبار لأسامة بن مُنْقذ الذي انتهى من كتابته في 13 صفر 610/هـ (4 تموز سنة 1213هـ))، هو أول سيرةٍ في الآداب العربية المُترجم، والمُترجَمُ له واحدٌ، كما يذكر ذلك الأستاذ الباحث ((فيليب حتي)) في مقدمته التي كتبها لهذا الكتاب القيم،وقد حظي الكتاب لأهميته بالتَّرجمة إلى لُغاتٍ غربيةٍ من بينها اللغة الفرنسية، ويذكر الأستاذ ((حتَّي)) أنَّ الأستاذ ((هارتوغ درنبورغ)) هو الذي قام بالترجمة،ولكن الأستاذ ((حتَّي)) يذكرُهُ أحياناً باسم ((لاندبرغ))، وهذا الاسم لمستشرق سويدي، وهو: Carlo Lan Dberg (1924 - 1848) انظر: موسوعة المستشرقين، تأليف، د. عبد الرحمن بدوي، ط1، 1984م ص 350 - 351. |
وكان لاندبرج يكتب ويترجم باللغة الفرنسية، ومن ضمن أعماله الشهيرة ((فهرس مخطوطات مكتبة الحلواني))، وأصدره سنة 1883م، ولقد قام كاتب هذه السطور بترجمته إلى اللغة الإنجليزية ((انظر: المدينة المنورة بين الأدب والتاريخ، ط1، 1413 - 1993م))، وإذا كان ((الاعتبار)) قد خرج عن مؤسسة ((ليدن)) بهولندا سنة 1884م، فإن ((فهرس مخطوطات عربية مأخوذة من مكتبة خاصة بالمدينة)) قد خرج عن المؤسسة العلمية نفسها سنة 1883م، وزيادة في التأكيد فقد ورد التاريخ في الترجمة الفرنسية لهذا الفهرست كالتالي: Ledien, 20th, Sept. 1883، ولعله من المفيد أنْ نذكر أنَّ ((لاندبرج))، قد نشر كتاباً هاماً يرجع إلى الحقبة التي كتب فيها ((أسامة بن منقذ)) سيرته هذه، وهذا الكتاب هو: الفتح القسي في الفتح القدسي ((لعماد الدين الأصفهاني)) ويتضمن الكتاب سيرة القائد المسلم صلاح الدين الأيوبي،وقد أخرجه ((لاندبرج)) سنة 1888م. |
وإذا تجاوزنا هذه المسلَّمة وهي أن الفكر العربي والإسلامي قد عرف فن السيرة الذاتية قبل أن يعرفه الغرب - بقرون عدة - فإن الكاتب ينتقل إلى مسألة أخرى تحتاج إلى شيء من المناقشة العلمية، فهو يقول ((وإذا كانت الثقافة العربية المعاصرة تخلو على نحو لافت من هذا الجنس الأدبي إلا باستثناءات محدودة ((سيرة حياتي لجورجي زيدان))، ((تربية سلامة موسى))
((حياتي))
((لأحمد أمين))، وعبارات الكاتب لا تخلو من انتقائية - ربما كان لها بواعثها المُحدَّدة - وإلا فكيف يمكن أن نغفل ((أيام)) طه حسين، و((حياتي في الشعر))، لـ((صلاح عبد الصبور)) و((سيرة شعرية)) لـ((غازي القصيبي))، و((أنا)) للأستاذ الكبير ((العقَّاد)) و((على الجسر)) لبنت الشاطىء، و((سبعون)) لميخائيل نعيمة،و((إبراهيم الكاتب)) للمازني، و((ترجمة حياة)) لـ((السيد محمد حسن فقي))، ((وذكريات طفل وديع)) لـ((عبد العزيز الربيع))، وهذه ((حياتي)) لـ((السيد حسن كتبي))، وأوراق العمر - ((سنوات التكوين)) لـ((لويس عوض))، وإذا كان بعض أدباء ومفكري الغرب قد عزفوا عن كتابة سير حياتهم، فإنَّ البعض قد سدَّ هذا الفراغ، فنرى الكاتب ((سيرج بيروتينو)) يكتب سيرة ((روجيه غارودي))، كما أن الكاتب الإنجليزي المعروف: “Georgiana M stisted” كتب سيرة أديب ورحَّالة إنجليزي معروف، وهو السِّير ريتشارد بيرتون: Sir-Richard, F. I Burton الذي ترجم قصة ألف ليلة وليلة شعراً إلى اللغة الإنجليزية الكلاسيكية،وقد عرفت سيرة بيرتون باسم The True, Life of Captain, Sir Richard, F. Burton "الحياة الحقيقية للكابتن سير ريتشارد بيرتون)). |
ومن أروع ما ظهر في الفكر الغربي - حديثاً - ما كتبه المفكر والسِّياسي المعروف ((دينيس هييلي)) عن حياته الخاصة والعامة في كتابه المعروف: The, Time, Of, My Life Pengin Book وقد بلغت هذه الترجمة حوالي 600 صفحة. |
أمَّا الملاحظة الأخرى التي تستحق شيئاً من النقاش العلمي فهي اتهام الكاتب أن ما ظهر من ((سير شملت الأبطال والأقوياء بشكل عام في نوع من المبالغة والتَّهويل يصل - أحياناً - إلى حدِّ القدسية، حيث لم تظهر صفات الضعف أو الخطأ، أو ارتكاب الذنوب تلك التي جميعها من طبائع البشر في كل مكان وزمان. |
هذه المقولة فيها من التعميم ما يجعل القارىء يشك أن الكاتب قد قرأ ((أيام)) طه حسين، التي كانت المُكاشَفَة والصَّراحة والجرأة من أهم سماتها، فهو لم يتردد مثلاً أن يذكر وهو - البصير - كيف أنه كان يأكل بعيداً عن أعين الآخرين حتى لا يحسُّ بتلك الأعين التي كانت تلاحقه حتى وهو يأكل ما يغذِّي به جسده النحيل، أما ((لويس عوض))، فلقد أثارت مذكراته من اللغط مما جعل بعض أفراد أسرته يقاطعونه ومنهم أخوه الأكبر الذي قلل لويس من قيمة عطائه الفكري إضافة إلى ما ذكره من مسألة ((العقم)) التي اتسم بها بعض أخوته، ولم يسلم ((لويس)) - نفسه - منها. إضافة إلى ما احتوته من مشاهد تخدش الحياء. |
إنَّه ليس من الضروري أن نقبل العمل الأدبي إلا إذا ما كان متضمناً الجانب الضعيف من حياة الإنسان، فالجوانب المضيئة في حياة الناس هي الجديرة بالاقتداء مع التنبيه ألا يكون ما يذكره هذا الأديب أو ذاك المفكر ضرباً من الخيال، أو الادعاء الكاذب، وهل الأمة تسلك دروب الحياة إلا بسمات الجد وشمائل الأخلاق الحميدة من صدق وإخلاص وعفةٍ وطهارة. |
ثم إنَّ ما ذكره الكاتب من دعوة مبطَّنة إلى أدب الاعتراف يجب أن ينظر إليه في السِّياق الحضاري والفكري والاجتماعي الذي ينتمي إليه الكاتب، فالديانة المسيحية تدعو مُعتنقيها إلى الاعتراف بين يدي الكاهن أو القدِّيس حتى - بحسب تصورهم الديني - يمكن تجاوز هذه الخطيئة أو ذاك الذنب، أمَّا ما يُميِّزُ الدين الإسلامي وباعتراف كثير من الكُتَّاب الغربيين ومن بينهم المفكر ((مراد هوفمان)) هو خُلوه من هذه الوساطة التي يقوم بها القديس أو رجال الدين في الملل الأخرى، فالعلاقة مُباشرة بين العبد وربِّه، وإذا ما خلا العبدُ إلى نفسه ودعا مولاه، واستغفرهُ فإنه يستشعر حلاوة الإيمان، وبساطة المعتقد الذي تميل إليه الفطرة، وصدق القائل في محكم كتابه العزيز وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ، (سورة البقرة، آية: 186). |
|