شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
ما أغنى الأمَّة عن هذا التشدد وتلك القسوة
يَسْلُكُ الفتى تلك الطريق التي ترسختْ معالمها في أعماقه وأضحى يَحِنُّ إليها كُلَّما جَنَّ ليْلُ وأبلج إصباحُ، الناس يغطون في نوم عميق، والظلام يُغطي برَهْبته وجَلالِهِ سماء المدينة الطاهرة ورجالٌ يقفون على بابي ((السلام)) و((جبْريل))، حتى إذا فتحت الأبواب دخلوا من تلك ((الكُوَّة)) الصغيرة في أدبٍ وسكينةٍ، قلوبُهم مُتعلقة شوْقاً وحُباً بصاحب المقام الطاهر، وألسنتهم لا تردِّد إلا ما تطمئن به النفس، وينشرح معه الصدر.
يَرْتفِعُ الأذانُ من المنارة ((الرئيسية)) المطلة على القبة المجللة بالبهاءِ، هذا ((حسين بُخاري)) يُردِّدُ في خُشُوع وتبتل ((الصلاة خيرٌ من النَّوْم))، وهذا إمَامُ المحْراب، وخطيبُ المنبر الشيخ عبد العزيز بن صالح. رحمهم الله، يُرتلُ آيات سورة الرَّحمن، فتَردِّدُ جبَالُ المدينة ووديانُها صَدَى تلك الأصْواتِ المؤمنةِ والمحبَّة لله ورسُوله. صلى الله عليه وسلم، رحمَ الله ((ابنْ صَالح)) فلقد صَعَدَ المنبر لأكثرَ من أرْبعين عاماً، فَلَم يَرْمِ أحداً مَنْ أهل القبلة في عقائدهم بألفاظ أصبحت للبعض اليوم من طُلابِ العلْم قامُوساً، يحفظونها عن ظهْر غَيبْ، ويتساهلون في تصنيف الناس وِفْقَ دلالاتها، فهذا قُبوريّ، وذلك في قلبه زيْغٌ، والآخر صاحبُ بدْعَة، ونسُوا غَضَبَ المصطفى - صلى الله عليه وسلم - عندما جَاءَهُ ((أسامة بن زيد بن حارثة)) ليخبرهُ بأنه قَتَلَ رجُلاً مُشْركاً، ولكنَّه نَطَقَ بالشَّهادتين عندما أشرع أسامة - رضي الله عنه، السَّيْفَ في وَجْهِهِ، وأنه قالها خوْفاً وذعْراً، فإذا بالنَّبي والمُعلِّم الأكبر سيدنا وسيِّد وَلَد العدنان - وسيِّدٌ على رَغْم أنوف الذي يضنُّون عليه بما هو أهلٌ له بين البشر عامة - فدَاكَ أبي وأمي يَا سَيِّدي - يا رَسُولَ الله - فإذا بالحبيب المصطفى يُوجّهُ في حدَّةِ للصحابي الجليل. رضي الله عنه وأرضاه - هذا السؤال هل شَققْتَ عَنْ قلبِهِ؟ الحبيب يُردِّدُ السؤال، والحِبُّ ابن الحبِّ يَطرق متأملاً ونادِماً، وإذا هُو يقولُ لمن حضرَ عندما شاهدَ من أرْسَلَهُ الله رحْمَة للعالمين، يُعلِّمه الدَّرْسَ، يواجهه بالحُجَّة، ويتمنَّى لو أنَّ أسامة، رضي الله عنه - لم يفعلها يقول سيِّدنا أسامة أنه تمنى لو كان ذلك اليوم هو أول يوم يَدْخُلُ فيه في الإسلام، تلك مَدْرسة خاتم النبيين وسيِّد المرسلين التي لم تخوِّل لأحدٍ أنْ يأخُذُ الآخرين بالظن، ويتساهل في إلقاء كلمات ((الشِّرك)) التي تهتزُّ منها الجِبَالُ الرَّاسياتُ، ولهذا فالأئمة الأربعة ومَنْ تبعهم مِنْ علماء الأمة كانُوا يميلون إلى استخدام كلمات مِنْ أمثال مكروه، غير حَسَن، يَحْسُن تجنُّبِهُ، يُفتَرض عدم الوقوع فيه.
ولقد جَلس الفتَى إلى دُرُوس عُلماء، جمع الله لهم بين العِلْم الغَزير والتفقه في مقاصِدِ الشَّريعة، وبين التواضع في النَّفس، والتهذيب في القوْل، والأدَب مع رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم وصحابته وآل بَيْته رضوان الله عنهم وإنَّهُ ليتذكَّرُ - يَوْماً - جَلَس فيه الشيخ ((عطية محمد سالم)) على كرْسيِّ شَيخه العلامة محمد الأمين الجُنكي - رحمهما الله. فسألَهُ أحدُهُم عَنْ مآلِ وَالديِّ النَّبي صلى الله عليه وسلم. فإذا بأفْقهِ النَّاس في مَذْهبِ إمام أهْل المدينة مالك بن أنسٍ - رحمه الله. إذا به يَرْفَعُ صَوْتَهُ في غضب قائلاً: مَنْ هذا الذي يُريدُ أنْ يُثيرَ الفِتْنَة؟ كُنْتُ أحُس بوجيب في صَدْره، وأرَى دَمْعاً ينسكبُ على شُعيراتِ لحيةِ جلَّلها، الإيمانُ، ولكأني بالفقيه، والقاضي، والمؤرِّخ الشيخ - عطيَّة - أسْكَنَهُ الله فسيح جناته، يستَعيدُ المشهدَ الذي ذَكَرَه شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في رسالته في فضل أهل بيت النبوة وحقوقهم، حيث رَوَى. ابن تيمية. رحمه الله. عن عمار وأبي هُريرة، قالوا: قَدِِمتْ دُرَّة بنْتَ أبي لَهبَ المدينة مُهَاجرة، فنزلتْ في دَار رافع بن المعلَّى، فقال لها نِسْوةٌ جلسن إليها من بني زريق: ابنة أبي لهب الذي أنزل الله فيه ((تَبَّتْ يَدَا أبي لهب)) فما يُغني هجْرتك! فأتَتْ ((دُرَّة)) رسُول الله - صلى الله عليه وسلم - فبكتْ وذكرَتْ ما قُلْن لها، فسَكَّنها وقال: إجْلِسي، ثم صَلّى - صلى الله عليه وسلم - بالنَّاس الظهرَ ثم جلس على المنبر - ساعة - ثم قال: يا أيّها الناس! مالي أوذي في أهْلي؟ فَوالله إنَّ شَفَاعَتي تَنَالُ قَرَابتي حتى إنَّ صَداء وحكم، وسَلب لتنالها يوم القيامة، رَواه الدَّيْلمي ((انظر، رسالة فضل أهل البيت وحُقُوقهم لشيخ الإسلام ابن تيمية، ط1، 1405/هـ 1984/هـ، دار القبلة للثقافة الإسلامية، ص 143)).
وإنَّ الفتى لتأخذُهُ الدَّهْشَةُ، ويستبد به العجبُ عندما يرَى البعض يَتَسَاهل في رمي النَّاس في عقائدهم بغير دليل ولا برهَان، وأنَّ باعث هذا البعض في التساهل في هذا الأمر الخطير هو عدم اتفاق البعض معهم في أمر يتصل بفُروع الشريعة وليس في أصولها وثوابتها وما عُلِمَ من الدّين الحنيف بالضرورة، وكأن هذا البعض الذي استسهل هذا الصعْب لم يَقْرَأ الحديث الذي رواهُ سيدنا عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ((أيُّما رجُل قال لأخيه كافر، فقد بَاءَ بها أحدهما)) انظر: الأدب المفْرَد، لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل البُخاري، شَرْح فضل الله الجيلاني، ط3، 1407هـ ص 528)).
ولا يتورَّع بعض النَّاشئة من جيل اليوم في مخاطبة والديهم بالغليظ مِنْ القوْل والذي يدخل في باب العقوق إذا ما اختلفوا معهم في أمْر من أمور الدُّنيا التي لا يترتَّبُ عليها كما يتوهَّمون، ضَعْفٌ في المعتقد، أو إخلال بواجب من واجبات الشَّرْع الحنيف، كما يقطع بعضهم صلة رحمه بسبب مثْل هذا الوَهْم، وبهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم أمَرَ الأبْناء ببرِّ آبائهم ولو كَانُوا مُشْركين، فكيف الأمر بمن ينطقُ بالشَّهادتين، ويقومُ بواجباتها وحُقُوقها، ونسوقُ هذا الحديث الذي أورَدَهُ الإمام البخاري - رحمه الله - للعبْرة والاتعاظ، فلقد رَوَى هشام بن عُرْوة، قال أخبرني أبي قال، أخبرتني أسماء بنت أبي بكر الصديق، قالت أتَتْني أمِّي رَاغِبةً في عَهْد النبي - صلى الله عليه وسلم - فسألتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - أفأصِلُها؟ قال ابن عُيْينة فأنزل الله عز وجل فيها لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ ((انظر الأدب المفرد للإمام البخاري، ص 95)).
وقد ثَبتَ أنَّ سيِّدنا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أهدَى حُلة لأخ له مِنْ أمِّه كان مُشْركاً، وقد أوردَ الإمام البخاري الحديث - بكامله - تحت باب سمَّاهُ ((بابُ صلة ذي الرَّحم المُشْرك والتَّهدية))، والأمرُ مترتِّب على الأمْر النَّبوي العام بصلةِ الرّحم، حيث قال - صلى الله عليه وسلم - وكل رحمِ آتية - يَوْمَ القيامة - أمامَ صاحبها تَشْهَدُ لهُ بصِلة، إنْ كان وصَلَها، وعليه بقطيعة إنْ كان قطعها الأدب المُفرد، ص 156)).
إنه مِنْ المحزن أن يرْسُمَ البعض من طلاب العلم - هداهم الله - من وحْي ظنونهم أو عن طريق اجتهادات خاطئة تلك الصورة القاتمة عَنْ تعاليم هذا الدِّين الحنيف، من شِدَّة وقسوة وغلظة وجَفْوة، مَعَ أنه أي الدين الإسلامي في حقيقته وجَوْهره هو دَينُ الاعتدال، والمحبَّة، والرَّحمة والرِّفق، والوسطية، التي وصَفَ الله بها هذه الأمة، فقال في محكم كتابه وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً (البقرة، 143).
وقد أثبت الله لخاتم النبيين وسيد المرسلين - عليه صلوات الله وسلامه - الرَّحمة واللِّين، ونَفَى عنه الغِلْظَةَ والقَسْوة فقال في محكم كتابه العزيز فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (آل عمران، آية: 159).
 
طباعة

تعليق

 القراءات :653  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 426 من 482
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الأعمال الشعرية والنثرية الكاملة للأستاذ محمد إسماعيل جوهرجي

[الجزء الخامس - التقطيع العروضي الحرفي للمعلقات العشر: 2005]

البهاء زهير

[شاعر حجازي: 1995]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج