النَّقد.. المأزقُ والطَّريقُ
(1)
|
يُطرح في السَّاحة الأدبية - دوماً - سؤال بسيط في ظاهره ولكنَّهُ عميق في جوهره ومحتواه، هذا السؤال يتمحور حول النقد وما تتصل به من قضايا، إنَّ تعريف النقد يدخل ضمن تلك المنظومات الفكرية والأدبية التي لم تستقر بعد مصطلحاتها في لغتنا العربية، ولكم تلفت الناس حولهم فقالوا ما هو الشعرُ؟ ولقد سمعت أحد مفكرينا يتساءلُ أثناء انعقاد المؤتمر الثاني للأدباء السعوديين: ما هو المقصود بمصطلح ((أديب))؟ وعلى من ينطبق - حقاً؟ ووجدتني في حيرة تشبه تلك الحيرة التي كانت تغلف تساؤلات ذلك الرجل الذي عرف الساحة أكثر مما أعرف، وخبر من أسرارها الشيء الذي لا يجعله يسأل واحداً من شداة المعرفة ذلك السؤال، ولقد رأيت الحيرة نفسها - تتجسد في قسمات وجه أديبنا الراحل عزيز ضياء - رحمه الله - عندما سأله أحدهم في ((التلفاز)) عن تعريف للأدب أو الثقافة، فأجاب الناقد ((عزيز)) بأنه الأخذ من كل علم بطرف، وهو تعريف قديم أشار إليه كما أذكر ابن خلدون. |
وإذا كان الأدب في حدود - علمي المتواضع - أسئلة تبحث دوماً عن أجوبة، فإنَّ السؤال لا يزال قائماً لماذا تتلبَّسنا هذه الحيرة كلما أردنا أن نقترب من هذه الكلمات محاولين تعريفها أو الإحاطة بشيء من معانيها، هل الأمر يعود إلى السياق الحضاري والفكري الذي نعيشه، وهو سياق يرتبط بالمأزق الحضاري الشامل الذي تمرُّ به الأمة بين ثقافة أصيلة تتعمق قلوبنا، وبين انفتاح لا يترك لعقولنا فسحة كبيرة من التأمل والمراجعة إنَّه صراع بين العقل والقلب في زمن يسعى الإنجليز والفرنسيون - فضلاً عن الأمم الأخرى - لتثبيت هويتهم أمام المدّ الكاسح والقادم من بلاد ((العم سام))، فكيف بالأمة العربية والإسلامية التي تتباين منطلقاتها الأساسية عن منطلقات الحضارة الغربية، وكيف يتم تحقيق المعادلة الصَّعبة... القائمة على الحفاظ على الأساس والمنطلق والجوهر والانفتاح الواعي على معطيات الحضارة المادية. |
لا أظن أن الأمة تفتقر إلى المفكر أو المثقف أو الأديب ولكنها اليوم أحوج من أي وقتٍ مضى لرجال من أمثال: العقاد والرافعي وطه حسين ومحمد حسين هيكل، ورفاعة الطهطاوي، ومحمد كرد علي، ومحمد حسن عواد، وعلي الطنطاوي ومحمد مندور، وعبد العزيز الرفاعي، وحمزة شحاتة. |
ما كان يملكه مفكر الأمة في الأمس لا يملكه للأسف مفكرو اليوم على كثرتهم، فمفكر النهضة كان قادراً على رسم المنهج وتطبيقه وعلى تشخيص الداء ومن ثم القدرة على وصف الدواء. |
بعد هذه المقدمة أعود - من دون خجل - لأنقل بالحرف والمسطرة من كتاب الناقد الفذ محمد مندور - رحمه الله - الموسوم ((في الميزان الجديد))، يقول ((مندور)) إن النَّاقد الحقيقي ليضيف إلى النَّص الشيء الكثير، يخلقه خلقاً بفضل ما في الكتب الجيدة من قدرة على الإيحاء، وهذا من حقه، بل من واجبه ما دام لا يتعسف فيخرج المعاني غير مخرجها أو يحملها ما لا تطيق، وفي الحق أن النقد الجديد خلق جديد، إذ سيان أن نحس ونفكر ونعتبر بمناسبة كتاب أو بمناسبة حادثة أو مشهد إنساني، وكل تفكير لا بد له من مثير)). |
ما شهدته الحركة النقدية من رواج فجر توحيد هذا الكيان كان خلفه عدد من العوامل يأتي في مقدمتها وجود الصفوة من جيل الرواد وهذا الجيل أخذ نفسه بأسباب الصقل والتهذيب المعرفي الذي يتلاءم مع حاجة المجتمع وتطلعاته ورؤاه بعيداً عن التنظيرات المبتسرة من السياقات الحضارية والفكرية الأخرى والتي يمكن أن تتلاشى في ضوء الواقع المختلف الذي تعيشه الأمة ويتنفس أجواءه المجتمع. |
ثم هناك عامل آخر ساعد على هذا الرواج هو ما كان يتمتع به من اشتغلوا بالنقد من سعة الأفق والقدرة على التعامل بأسلوب حضاري راقٍ، فعندما أخرج - مثلاً - إبراهيم هاشم فيلالي مرصاده، علم أن زميله في مجال النقد عبد الله عبد الجبار كتب نقداً دعاه ((مرصاد المرصاد)) فأصرَّ السَّيد الفيلالي على أن يخرج عمل عبد الجبَّار مع عمله الذي ابتدأ به عملية النقد في كتاب واحدٍ، ثم كتب حسن عبد الله قرشي نقداً آخر على المرصاد ورديفه فطبعت هذه الآراء جميعاً وأخالها خرجت قبل عدة سنوات في سفر واحد عن نادي الرياض الأدبي. |
وعلى الرغم من تلك المعركة الشعرية التي كان طرفاها رائدين من رواد الشعر هما العواد وشحاتة إلا أنهما كانا يجتمعان في ودادٍ وصفاء وكان شحاتة يعترف بأستاذية العواد عليه، والشاعر محمد صالح باخطمة يعرف عن هذا الجانب المضيء في حياة الشاعرين وهذا دفعه لتدوين كتاب بعنوان ((حمزة شحاتة كما عرفته)) سوف تقوم جائزة شاعر مكة ((محمد حسن فقي)) بإخراجه في الاحتفالية النقدية التي سوف تخصص عن شحاتة. |
ودليل آخر على سعة الأفق هذه التي تلاشت مع بروز الجيل الجديد من أرباب صنعة النقد، هو أنه على الرغم من تلك المعركة الكبيرة التي دارت حول ((جيم)) جُدَّة بين الباحثين الكبيرين عبد القدوس الأنصاري - رحمه الله - وحمد الجاسر - أطال الله بقاءه - لم يمنع هذا كله من أن يكتب الشيخ الجاسر مقالاً يرثي فيه مجايله ((الأنصاري)) ويعترف أنه كان على حق فيما ذهب إليه من رأي يصر فيه على ضم ((الجيم)). |
ولقد حضرت المؤتمر الأول للأدباء السعوديين الذي قامت به كلية الآداب بجامعة الملك عبد العزيز، وكان من ضمن الفعاليات محاضرة للأستاذ المرحوم عبد العزيز الرَّبيع عن شاعرية أحمد شوقي، وكانت معركة أدبية قد قامت بين العواد والرَّبيع حول شاعرية ((ثريا قابل)) وسئل الرَّبيع سؤالاً حول الخلاف الذي دار بينه وبين الأستاذ العواد، وكان هذا الأخير خرج من القاعة، فاعتذر الرَّبيع عن الإجابة لأن الطرف الآخر وهو العواد لم يكن موجوداً، فكيف يقول الربيع رأيه ولا يتسنى للطرف الآخر ((العواد)) أن يعبر عن رأيه، وشتان بين ذلك الفهم والوعي الذي كان موجوداً في الساحة قبل نصف قرن وبين ما نلاحظه - اليوم - من تصميم على فرض الرأي القائل به طرف من الأطراف، وعدم السماح للطرف الآخر بالقول، مع الأخذ في الاعتبار أن الذين يفعلون هذا هم من دعاة التعددية والانفتاح، وعليهم أن يعلموا أن الغرب الذي يدعون لاحتوائه ترتفع فيه الأصوات المتباينة وتتحاور فيه الأفكار المتضادة. وهذا سر من أسرار تفوق الغرب علينا في الفهم الحقيقي للحوار ومقتضياته وضوابطه. |
تراجع النقد سببه ((الشللية))، فعندما ظهرت في الخمسينيات - مثلاً - الواقعية الاشتراكية كمذهب أدبي وكانت متساوقة في ظهورها مع بروز الأيديولوجية الشيوعية والاشتراكية، تلقفها بعض الأدباء العرب وأرادوا أن يفرضوها على الواقع الأدبي فرضاً، وكل من لا يأخذ بها يكون التعتيم والإهمال لإنتاجه، وقفل أبواب النشر - أمامه - وكان من ضحايا هذه اللوثة الروائي المصري المعروف ((محمد عبد الحليم عبد الله))، صاحب العمل الأدبي الرائع ((اللقيطة))، وعندما اجتاحت الساحة بعد ذلك التيارات الشكلانية مثل البنيوية وغيرها من أن أدبنا تخطى هذا النوع من الفكر الأدبي في عصر النهضة - وذلك بعد أن تخلصنا من آثار مدرسة البديع التي بدأها ابن المعتز وطوّرها العسكري والسكاكي، وابن حجة، رأينا أنصار ((البنيوية)) في العالم العربي يكممون الأفواه التي لا تأخذ بهذا المبدأ أو التوجه الأدبي، مع أن نقاداً غربيين مثل جورج واطسن - الإنجليزي، كانوا من الوعي والفهم ما جعلهم على حد قول ((واطسن)) يُشككون في جدوى الشكلانية وقدرتها على الارتقاء بآدابهم، يقول الناقد الإنجليزي المذكور في كتابه ((الفكر الأدبي المعاصر)) ليس النقد الإنجليزي - الأمريكي - مستعمرة من مستعمرات باريس، ولذلك فلم يتحول الكثيرون من نقاد العالم المتحدث بالإنجليزية إلى البنيوية في الخمسينيات والستينيات على حين أن أولئك الذين اعتنقوا البنيوية لم ينتجوا أكثر من مؤلفات قدموا فيها أفكار أساتذتهم من باريس)). |
ومن أسباب التراجع أن بعض الذين تصدّوا لقراءة المنجز النقدي الغربي لم يتمثلوا هذا المنجز ويهضموه - إن صحَّ التعبير - ثم يكون حديثهم - بعد ذلك - عن رومانسيةٍ وكلاسيكيةٍ وبرناسية تلائم الإبداع العربي الذي نشأ في ظروف تختلف كل الاختلاف عن الإبداع الغربي والسياق الحضاري الذي نشأ فيه، وإن كانت قلة من النقاد العرب من أمثال ((شكري عياد)) في مصر، وأبي القاسم كرّو في تونس، وعبد الله عبد الجبَّار في الجزيرة العربية استطاعوا أن يبثوا الروح العربية فيما قرأوا من التراث النقدي الغربي ويجعلوه متناسقاً ومتوائماً مع إبداعنا الخاص الذي يشكل هويتنا الخاصة. |
|