دروب الهوى في الشعر بين الخوجة والقصيبي |
تتوجه الدراسات النقدية والأدبية عند الدارسين بدوافع مختلفة وهذا ما أثر في المشهد الشعري العربي فارتفعت في سماء الشعر أسماء لا تستحق ذلك الصعود المفاجىء، ولم تلمع الأسماء الشعرية الفاعلة للأسباب التي أشرنا إليها ومنها عامل الشللية الذي يلعب دوراً كبيراً في هذا المنحى النقدي، ولم تحظ إبداعات الشاعر الدكتور عبد العزيز خوجة داخل بلادنا بكثير من الاهتمام مع قوة شاعريته وتفردها مع أن عدداً من النقاد العرب احتفوا بإبداعاته وأولوها كثيراً من اهتمامهم، ومنها الدراسة التي أعدتها الناقدة ((غريد الشيخ))، ودراسة أخرى للدكتور ((إبراهيم المزادلي)) والتي تخصصت في تحليل قصيدته المعروفة ((أسفار الرؤيا)) ويعترف الشاعر الكبير ((محمد الفيتوري)) في تقديمه لدراسة (())غريد)) النقدية بأن الشاعر الخوجة ((أحد أبرز شعراء جيله الواقفين عند أقصى درجات السلم الشعري المعاصر)). |
ويرى في إبداعاته - خلاصاً - من ذلك الغث الذي ساد الساحة الأدبية - أخيراً، يقول ((الفيتوري)) عن دور ((الخوجة)) في الارتقاء بالمشهد الشعري العربي مع عدد آخر من مجايليه بلى ((ياغريد الشيخ)) إن الشاعر عبد العزيز محيي الدين خوجة، ولربما انضم إليه عدد ضئيل من معاصريه من شعراء اليوم الذين هم اليوم وبخاصة ضمن ظروف الانحدار الشعري والفني والحضاري والسياسي والأخلاقي والاجتماعي هم اليوم أشبه بتلك الكائنات البشرية الملائكية والتي شاهدناها في أحلامنا عندما كنا صغاراً، وهي تزاحم بأمجادها صفحات التاريخ، وتصنع بطولاتها الأسطورية التي لم نعد نشاهدها إلا عبر أفلام الخيال العلمي وفوق شاشات القنوات الفضائية وأحياناً تحت أقدام لاعبي كرة القدم ((انظر مقدمة كتابها))
((عبد العزيز خوجة)). |
ولربما أراد ((الفيتوري)) من وراء عبارته الأخيرة التأكيد على تمكن الشاعر من اللغة وقدرته الفنية الفائقة على صياغة مفردات القصيدة، كما ألمح إلى دور الخيال في إبداع القصيدة، وإلى نزوح الشاعر للتحليق في عوالم الروح بما يذكر بشعراء المتصوفة الكبار والذين من ناحية فنية كانوا - كما أرى - امتداداً لتيار الشعر العذري في عصر صدر الإسلام كما يذكرك الشاعر في بعض إبداعاته بـ ((عبد الرحمن الشرقاوي)) و((صلاح عبد الصبور)) وخصوصاً في هذه المقطوعة التي جعلها بين يدي ديوانه ((إلى من أهواه)) والذي ضمنه بعض مختارات من شعره: |
يقول في تلك المقطوعة التي تدل على تمكن الشاعر من موسيقى الشعر الحديث والمعروف بشعر التفعيلة مثل تمكنه من موسيقى وبناء القصيد الكلاسيكية الأصيلة. |
قل لي: يا من خفقات فؤادي طوعا تهواه |
قل لي: يا من يحلو لي أن أفني مأخوداً بسناه |
قل لي: هل سُلِبت مني الأشياء |
أم أني في لحظات فناء |
لا أدري شيئاً عن نفسي |
خاوية أعماق الكأس |
لكن، لا عطش أو إرواء |
|
ومن آخر إبداعات الخوجة، قصيدته التي أخذت عنوان: ((لقاء في باريس)) ويقول في مقطع من مقاطعها: |
هذا غرامك في دمي ليلاي أحفظه |
حتى البلى لا أشتكي وجلاً ولا خجلا |
لا غير حبك في فؤادي من يدق له |
أنت التي في خفقه حزنان أو جَذِلا |
ويكاد قلبي أن تذوّبني صبابتُه |
ويذوّب الدنيا معي عمداً وقد فعلا |
|
ونؤكد على الطابع الروحي الشفاف الذي يتسم به شعر الدكتور خوجة من خلال ما ينساب بين سطور قصيدته التي تحمل اسم ((حبيبي)) وهي صدى لقصيدة الشاعر الكبير الدكتور غازي القصيبي والتي بعث بها لصديقه الخوجة: |
يقول المبدع ((القصيبي)) في مطلع قصيدته التي حركت بواعث الشعر عند رفيقه ((الخوجة)). |
من الإعصار أنت أم النسيم... |
وناري أنت؟ أم دار النعيم؟ |
مزاحك لا يقرُّ له قرار... |
كبرقٍ لا يقرُّ على الغيوم |
يجرَِّعني السعادة حين يبغي... |
وحين يشاء يقيني همومي |
ويمنحني السلام، وحين يَطغى... |
يقلِّبني على جرح أليم. |
|
فكانت قصيدة ((الخوجة)) والتي إن حملت رؤياً أو قافية مغايرة إلا أن الشاعر يحاول أن يعبر عن أحاسيسه ومشاعره التي لقيها في دروب الحسن والجمال: |
يقول ((الخوجة)) في مفتتح قصيدته ((حبيبي)): |
من الأحلام جئت أم الغيوب... |
ومَن ألقى بحسنك في دروبي |
كأني قد بدأت اليوم عمري... |
وأول ما نطقت به حبيبي |
وأول مرة يشدو فؤادي... |
بأغنية الغرام بلا رقيب |
ولا أخشى العواذل إن تناهوا... |
فحبي فوق معترك الخطوب |
|
ويجسد المطلع التالي من قصيدة القصيبي مأساة المحب الذي لا يرتوي ظمأه إلا برؤية ((الحبيب)) فهو في وصال الحبيب له في نعيم ولكن هل يدوم وصال في الحب! أم هل ترتوي نفس من منبع الجمال؟ فطبيعة النفس الإنسانية هي التوق الدائم لما هو غائب، ولعل في تشببه الشاعر لنفسه بأنه ((كالطفل اليتيم)) في حال غياب الحبيب ما يؤكد حاجة النفس أو تطلعها إلى ((الحنان)) فالإنسان يظل ((طفلاً)) في أعماقه حتى وإن حالت الظروف - أحياناً - دون تعبيره عن حاجاته وخصوصاً تلك المتصلة بالمشاعر والأحاسيس والوجدانية. |
يقول شاعرنا القصيبي: |
خذي هذه الدقائق فهي تجري... |
تصير إلى غبار في النجوم |
وحين أغيب أعود وحدي... |
إلى دنياي كالطفل اليتيم |
وتفتقديني ويضجُّ نهدٌ... |
طواني أمس في الحب الرؤوم |
سنندم حين تُباعدنا الليالي... |
وهل تأتي الندامة بالنديم |
|
إلا أن ((الخوجة)) يرى أن محبوبه قد أضحى جزءاً منه، أو بحسب تعبيره قد ((توحد)) به، والتوحد ((مصطلح صوفي)) إلا أن استخدام الشاعر - هنا له لا يعدو كونه تعبيراً فنياً استطاع الشاعر لتمكنه من أدواته الشعرية بأن يدمجه في البناء الفني لقصيدته ولكن هل توحد الحبيب بمحبوبه تضيع معه آلام الفراق وعذابات البعد التي يظل الإنسان يحس بها حتى وإن كان من يهوى قريباً منه، هذا ما سوف نقف عليه من خلال المقطع الأخير من قصيدة الشاعر الخوجة والتي شكلت مع قصيدة القصيبي رؤية حية، إزاء الحياة، وفي زمن طغت فيه ماديات الحياة، وضاعت في صخبه وضجيجه المشاعر الصادقة للإنسان نحو الآفاق الجميلة والرحبة في كون لا يمكن فيه أن تغيب ((الروح)) من معادلة هذه الحياة الفانية: |
يقول شاعرنا الخوجة والذي يذكرك شعره بروائع عباس بن الأحنف وأبي فراس الحمداني وابن الفارض. |
فنائي فيكِ أرشدني طريقي... |
فصرت الفرد في الكون الرحيب |
توحدنا فما تدري ضلوعي... |
أقلبي أم وجيبك في اللهيب |
تمازجنا فصرنا محضَ سُكْر... |
وطاب الشهد في الوصل الرطيب |
فإن ودّعتُ إنك في فؤادي... |
وإن فارقت تهرب في هروبي |
أجدد فيك في الأحلام عمري... |
وأسْكُبُ من طيوبك بعض طيبي |
ومهما ضل في لقياك خَطْوي... |
ملاذي في حنانك يا حبيبي. |
|
|