شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
رائدٌ قتلَهُ تَواضُعُهُ (1)
معانقاً للعمل، الذي أحبه، وبذل له كل قطرة عرق ودم في حياته؛ لينهي دائرة أخرى من دوائر الزمن، لم يكن الأول الذي مات على هذا النسق العجيب.
قبله عاش أدباء ومفكِّرون، ثم ماتوا: وهم يعانقون القلم أو الكتاب؛ من هؤلاء: الأديب عبد العزيز الرَّبيع - رحمه الله - كان آخر عهده بهذه الحياة الفانية نظرات سابحة في عالم الكلمة المضيئة؛ إنه نوع من أنواع العشق؛ بل هو أسماها وأرفعها.
لقد عشق ((سباعي)) الكلمة، وتجسد عشقه لها في دوائر عديدة؛ تمثَّل الكتابة القصصية فيها منحىً متميزاً ولكن ((سباعي)) الذي سبقته أسماء معدودة في ريادة هذا الفن: كعبد القدوس الأنصاري، وأحمد السباعي، ومحمد علي مغربي، وأحمد رضا حوحو، ومحمد عالم الأفغاني، وإبراهيم الناصر، وعبد الله جفري، هيأ نفسه بأن يكون رائداً في هذا الميدان؛ بتمكنه من علوم التراث واللغة.
فلقد بدأ حياته العلمية طالباً بكلية الآداب بالسودان، ثم نجده يلتحق بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، ولا بد أن دراسته، في هذا الصرح العلمي، كانت في علوم الشريعة الإسلامية.
ولقد أورد الأستاذ محمد محمود حافظ إشارة لها مغزى كبير في حياة ((سباعي)) العلمية؛ إبَّان زمالته له في هذه الجامعة، وهي أن ((سباعي)) كان يعنى كثيراً بقراءة ودراسة قواميس اللغة العربية؛ مما كان له أثره - فيما بعد - في البناء اللغوي لإنتاجه القصصي، والذي يمكن وصفه بالقوة والجزالة.
ويؤكد الأستاذ شاكر النابلسي، في دراسته المعروفة ((المسافة بين السَّيف والعنق)) أنَّ ((سباعي)) كان يحفظ كثيراً من الشعر، وأنَّ شعراءه المفضلين هم: طرفة بن العبد، والأحنف بن قيس، وأبو فراس الحمداني،والمتنبِّي.
ويورد ((النابلسي)) كلمات ((سباعي)) عن هذا الأخير قائلاً: ((كنت مفتوناً بالمتنبي وإلى اليوم، وإلى بكره؛ فالحكمة التي جرت على لسان هذا الشاعر لم تجر على لسان شاعر آخر من شعراء العربية)).
المهم - هنا - ليس فقط في تعداد مصادر ثقافة الرَّجل، ولكن في أنه كان يملك قاعدة تراثية تمكنه من الانطلاق - بقوة وأصالة - في معالجة فنون الأدب، والغور في أعماقها، ثم الخروج بتلك الإبداعات الخالدة.
ولعلّ النظرة النقدية الفاحصة تؤكد كذلك أنه كان واحداً من أولئك الذين يتمتعون برؤية حضارية واضحة؛ ولهذا تميزت جميع الرؤى الأخرى عنده؛ قديمها وجديدها؛ أصيلها وزائفها: ولذا لم يكن غريباً أن نسمع من الأستاذ محمد الحسَّاني، في رثائه أنَّ ((سباعي)) - رحمه الله - كان يناقش بقوة أولئك الذين تختلط في أذهانهم مفاهيم التجديد، ويبحثون عن السبل والمبررات لبتر العلاقة بين الكاتب وتراثه؛ كأنَّه أراد أن يقول لهم: ليس بالإمكان السَّير في طريق كهذا؛ لأنَّه ضدُّ كل تفكير منطقي يأخذ بالأسس والقواعد التي تختصّ بها أمة دون أخرى في تكوينها الحضاري والفكري.
كان ((سباعي)) - رحمه الله - كما ذكر لي الزميل الدكتور محمد يعقوب تركستاني كثيراً ما تستوقفه آيات الكتاب الكريم، وتبهره معاني الإعجاز فيها، ومبعث ذلك - بلا شك - تلك التربية الدينية التي تلقَّاها، في بداية حياته، ثم استمرت إشراقاتها في نفسه؛ ولهذا نجده دائم الحنين إلى مواضع القداسة والنُّور، في أرض الحرمين الشريفين.
وإنني لأذكر أنه تحدَّث مرَّة عن زيارة له إلى المدينة المنورة، في عيد الفطر المبارك، وفي مطلع التسعينات الهجرية ((إنَّ اللَّحظات تلك التي وقفت فيها أمام ضريح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسلماً عليه)) لقد وقف حيث يقف المحبون؛ أولئك الذين تمتلىء قلوبهم بالإيمان، وتستذكر نفوسهم ذلك التاريخ العظيم؛ الذي جسَّده جهاد المصطفى - صلى الله عليه وسلم - مع صحابته الكرام رضوان الله عليهم.
لقد مات ((سباعي))، ولم نكرمه في حياته؛ كأننا نشيح بوجوهنا عمَّن يضيئون بالكلمة الصَّادقة مواضع الظلمة في هذه الحياة؛ عن أولئك الذين يولدون ليؤدُّوا رسالة العلم والتنوير، ثم ينسلّون من بيننا، ويتركوننا حيارى: نذرف الدمع، ونبدع القصيد، ونكتب الذكريات.
أليس من حقهم علينا أن نكرِّمهم في حياتهم؛ ليكون الحب أعمق، والوفاء أجمل، والكلام أبلغ؟!
رحمه الله ((سباعي)) فلقد كان رائداً متواضعاً، وما أكثر الذين قتلهم تواضعهم.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :615  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 408 من 482
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذة بديعة كشغري

الأديبة والكاتبة والشاعرة.