شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
قراءة حضارية وفكرية من خلال تقرير بيرل
بداية لا بد من القول إن تقرير (ريتشارد بيرل) والذي تم تقديمه إلى مجلس سياسة الدفاع الأمريكي والذي يتهم المملكة بأنها دولة تمول الإرهاب، إن هذا التقرير هو جزء من الحملة التي تستهدف هذا البلد وعقيدته وتاريخه ووحدته الوطنية.
ويتبع هذا القول أو الحقيقة أن كثيراً من اليهود الأمريكيين ومنهم (بيرل) هم من الشخصيات التي يمكن تصنيفها ضمن دائرة ما يسمى بـ (عقيدة الولاء المزدوج) حيث يحل الولاء للحركة الصهيونية وإسرائيل المحل الأول لدى معتنقيها ويكون للبلد الذي تعيش فيه هذه الشرذمة من الدرجة الثانية فإذا تعارضت مصالح إسرائيل مثلاً مع مصالح الولايات المتحدة الأمريكية يقدم هؤلاء المعنيون مصلحة إسرائيل على مصلحة البلد الذي يعيشون فيه أو عاش فيه آباؤهم أو أجدادهم فالأمر سيان. ويشاركهم هذا المعتقد بعض طوائف الفكر المسيحي البروتستاني الأصولي إلا أنه هناك قضايا لا بد من مناقشتها بكل وضوح وصراحة فالدوائر الغربية السياسي منها والفكري والإعلامي تنتهج سياسة لا يوليها العرب شيئاً من اهتماماتهم وهذه السياسة تتمثل في عملية تبادل الأدوار، فالإعلامي الغربي مثلاً له حق مناقشة قضية معينة ثم طرحها على دوائر لصيقة بالمطبخ السياسي - إن صح التعبير - وما على الدائرة السياسية سوى إعطاء الضوء الأخضر للنخبة الفكرية أو الإعلامية، أو لمجموعة معينة في الكونجرس أو مجلس العموم حتى تطرح للنقاش علانية، وبعد أن تخرج إلى حيز الوجود يمكن من ردة الفعل إزاءها جس نبض الطرف المعني بهذه التهمة و ذاك القول، وليس هناك من مانع بأن تصدر الدوائر السياسية بياناً موجزاً مفاده أن هذه الأفكار لا تمثل الحكومة أو وزاراتها المعنية. وقد قدم الغرب للعالم العربي والإسلامي منذ أكثر من قرن من الزمن كثيراً من الوعود ولكنه تنصل منها. وما معاهدة سايكس بيكو، ووعد بلفور، وبيان بوش القاضي بإنشاء دولة فلسطينية، أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، ثم التنصل منه أو تحويره ديبلوماسياً، لتصبح هذه الدولة مؤقتة ثم في مرحلة لاحقة نجد الأمر تحول ليصبح الحديث عن الدول أمراً سابقاً لأوانه. وكل هذا يتم والمسؤول يلعب (الجولف) أو يقضي عطلته الأسبوعية في المنتجع، أو إجازة (الكريسمس) و (الإيستر). ما هذا كله وسواه إلا دليل واضح على أن الغرب استمرأ هذا الأسلوب مع العرب مكتفياً بتطييب الآخر والعودة إلى أساليبه - وهو جزء من التفكير الغربي إزاء الآخر، وإذا كان العرب سرعان ما ينسون أو يصفحون فإن الغرب لا يؤمن بشيء اسمه التسامح أو الصفح وخصوصاً إذا كان الأمر ملتصقاً بمصالح الغرب، وهنا نقف لنقول بأن الزعيم البريطاني المعروف (تشرشل) سبق أن قال ما معناه، بأنه ليس هناك صداقات دائمة أو عداوات دائمة ولكن بالتأكيد هناك مصالح دائمة، ولقد خضنا حروباً مع الاستعمار الأوروبي البغيض، ومع الكيان العنصري الإسرائيلي، ولكننا لم نحاول اكتشاف الغرب من الداخل كما فعل هو من زمن بعيد فأنشأ أقسام الدراسات العربية الإسلامية، أو الشرق أوسطية في جامعات عريقة مثل: أكسفورد، كيمبردج، لندن، مانشستر وهارفارد، وأنديانا، وأنشأ المعاهد الاستراتيجية المتخصصة في دراسة الفكر السياسي العربي والاقتصادي والاجتماعي، واكتفى الليبراليون منا بتمجيد ديمقراطية الغرب ونسوا أن الغرب لم ولن يسمح بأن يتعدى ذلك أسوار الكونجرس ومقاعد مجلس العموم، أو يتجاوز عتبات البيت الأبيض ودواننغ ستريت، وانخرط هؤلاء في علاقة رومانسية حالمة وكاذبة مع الغرب الواقعي، واكتفى دعاة العودة إلى التراث وهو شيء محمود وفعل جيد، اكتفوا بهذه الدائرة المغلقة ودعوا إلى قفل النوافذ والأبواب وما علموا أن الرياح عاتية والصواعق قوية، وأن تحصين البيت من الداخل لا يمكن أن يأتي من سلاح نشهره في وجوه بعضنا البعض، فهذا سُني وذاك شيعي وهذا سلفي وذاك صوفي، وما زلنا في العالم العربي والإسلامي ترتفع أصوات كريهة ترمي من يتفق معها بالكفر حيناً والشرك والنفاق حيناً آخر. ويقول بعضهم جهلاً وانغلاقاً وتحجراً إن معركتي مع أخي المسلم المختلف في الرأي معي هي مقدمة على معركتي مع أعدائي الآخرين، وإذا كان البعض قفز السلم بسرعة متناهية داعياً إلى الحوار مع الآخر عقيدة وفكراً فإنه ليس بصادق مع نفسه مادام هو ليس على استعداد للحوار مع من يشاطره العقيدة ويعيش جاراً له. وإذا كان تقرير (ريتشرد بيرل) كشف عن وجه قبيح لتلك الحملة التي يقودها أصحاب الولاء المزدوج لبلد الإيمان والسلم والمحبة، فإنه من أوجب الواجبات علينا أن نتصدى لذلك فكرياً وإعلامياً ولا مانع من أن نُلقي نظرة فاحصة على أنفسنا فيكون الولاء - بعد الله - لهذا الوطن، ووحدته مقدم على أهواء نفوسنا ونعراتها.
أعود مرة أخرى لمناقشة تقرير (ريتشارد بيرل) من وجهة نظر حضارية وفكرية وبعيداً عن الإطار السياسي الذي حاولت فيه جهة محددة وهو مجلس سياسة الدفاع الأمريكي، تقديمه والدفاع عنه، وأخرى حاولت أو عملت على التنصل منه، وهذا الأمر المتعلق بهذا التقرير الظالم والمتحيز والمرفوض بكل أبعاده أي قضية تبادل الأدوار في الفكر السياسي الغربي المعاصر وهو سمة من سمات السياسة الخارجية التي عمل الغرب على إنتاجها منذ أمد طويل ولا أعلم إذا ما حظي هذا النهج بدراسة عربية جادة بعيداً عن تيار يبهره ما يدعيه الغرب من تطبيق للديمقراطية، وآخر يرى الحضارة الغربية شراً كلها، وإذا كان هناك سياسي ومفكر أوروبي معتبر قد تحدث عن حقيقة ديمقراطية الغرب فهو اللورد بيتر كارنغتون Lord Carrington والذي عمل وزيراً للدفاع في حكومة إدوارد هيث 1970 - 1974م، وزيراً للخارجية في حكومة تاتشر الأولى 1980 - 1982م. وأدى الغزو الأرجنتيني لجزيرة الفوكلاند إلى استقالة طواعية فيما عرف بعد باسم (نقطة شرف). فلقد خاطب حزبه المحافظ أو أصواتاً فيه من اليمين المتشدد كانت تعارض نقل الحكم في جمهورية زيمبابوي، روديسا، سابقاً من الأقلية البيضاء إلى الأكثرية من سكان البلد والذين عانوا من الاضطهاد والظلم ما عانوا، وإني لأتذكر كلماته الخارجة من أعماقه الصادقة والقائلة: (السيد المتحدث يعني المتحدث باسم مجلس العموم.. أنهم يحللون الديمقراطية لأنفسهم ويحرمونها على غيرهم. ولقد دفع (كارنغتون) ثمن صراحته مع بني قومه، ودفعه من قبله نظيره في محافظي بريطانيا أيان ماكلاود Iain Macleod والذي توفي فجأة في عام 1972م في منزله بدواننغ ستريت حيث كان وزيراً للخزانة، فلقد كان أعداؤه في حزبه من الكثرة وذلك لأنه كان يدعو لتحرير القارة السوداء من الاستعمار الإنجليزي ثم يفترض - فينا - أن نعي أن السياسي يتماهى مع الفكري في الغرب، فأنت تجد هنري كيسنجر الأمريكي ذا الجذور اليهودية حاضراً في المنتدى الفكري كحضوره في المنتدى السياسي وأنك لواجد - أيضاً - التوافق الفكري بين الأحزاب الغربية الحاكمة والأخرى المعارضة عندما يخص الأمر مسألة قومية من وجهة نظرهم فالديمقراطيون في الولايات المتحدة يتمايلون فرحاً وسروراً عندما يخطب الرئيس متحمساً، ويصفقون كثيراً لتلك الكلمات التي يوقعها بالمنصة التي توضع أمامه وإلى حد ما يمكن أن ينطبق القول على محافظي بريطانيا. فالرجل القابع في (10 دواننغ ستريت) هو محافظ في فكره ولباسه وهو يحاول أن يقلد (التاتشريين) في لغتهم اللندنية الفخمة، ولهذا فهم يقفون خلفه حتى وإن خالفته أصوات حرة في حزبه تدعوه لعدم الرقص على الأنغام الأمريكية الصاخبة، وحذرته من أن يلعب دور سفير الشؤون الخارجية الأمريكية. فالساسة البريطانيون حسب تعبير هذه الأصوات أكبر من أن يلعبوا دوراً كهذا وحتى مارجريت تاتشر على رغم هواها الأمريكي لم تصل إلى الدرجة التي وصلها بلير بتبني الرأي الأمريكي دون وقفة صادقة مع النفس أو رؤية موضوعية في الرأي المعروض والفكر المتقلب لساسة هدفهم الأول هو إرضاء شارون، وإذا كان (بوش) و (بلر) لا يرغبان مطلقاً في نقد سفاح العصر الصهيوني فإنه من المخجل للغرب أن نسمع أصواتاً في الكنيست الإسرائيلي وخصوصاً من العماليين ترفض السياسة الهوجاء لدولة الحاخامات، وكيان الأصولية اليهودية المفرطة في تشددها. لا أعلم إلى متى نظل على تلك الرؤية السطحية عن الغرب؟ فليس في إعلامنا وصحافتنا من هو متخصص في الشأن الغربي سياسياً وفكرياً واقتصادياً واجتماعياً. ولنضرب مثلاً على ذلك، ففي بريطانيا يوجد صحافيون على درجة عالية من المهنية معروفون باهتمامهم بالعالم العربي، إلا أنهم يتوزعون أيضاً على حقول مختلفة، فلقد كان مثلاً وإلى حد قريب يعتبر مايكل أدمز Michael Adams مرجعاً في القضية الفلسطينية، أما ديفيد هيرست David Hirst صاحب كتاب السلاح وغصن الزيتون The Gun and the Olive Branch فرغم إلمامه بكثير من شؤون الشرق الأوسط، إلا أن الشأن اللبناني بكل أبعاده هو ما يطغى عنده على الاهتمامات الأخرى ويأتي (باتريك سييل) في هذا السياق كمتخصص في الشأن السوري. فالصحافي المعروف (روبرت فيسك) كاتب صحيفة الأندبندنت المعروف فهو يمزج في كتاباته الصريحة بين الفكري والصحافي. ويتميز الوزير المحافظ السابق (جيم براير) Jim Prior باطلاعه الواسع على الشأن الاقتصادي العربي لذا فقد اختير رئيساً للغرفة التجارية العربية البريطانية المشتركة. أما المفكر والسياسي البريطاني دينيس هييلي Denis Healey فيعرف عن النواحي العسكرية العربية ما يمكن أن تلاحظه في فصول كتابه المعروف والقيم (The time of my life). دعونا نصارح أنفسنا ما الذي نعرفه عن عدونا الأول والأخير إسرائيل؟ فبينما يتكلم عدد من الإعلاميين والصحافيين اليهود اللغة العربية، وتتخصص فرق كثيرة منهم لدراسة الشأن العربي أدباً وتاريخاً ولغة. فإن الأمر في العالم العربي لا يتعدى الاهتمام الفردي المحض، وإذا برز مفكرون يعرفون عن الصهيونية وأدبياتها الشيء الكثير مثل المرحوم حسن ظاظا رحمه الله وعبد الوهاب المسيري شافاه الله فإنه يصعب علينا أن نجد من يخلفهما في هذا الحقل الهام من الدراسات المقارنة بين الفكرين العربي والعبري.
لقد ذكرت في مقالة سابقة أنني سوف أناقش ابعاد تقرير بيرل من نواحٍ حضارية وفكرية، إنني على يقين أنني لم أفعل إلا القليل ولقد حاولت أن أتحسس مواضع الضعف في رؤيتنا للآخر فكرياً وحضارياً وإعلامياً، وأن الواجب الوطني ليلقي علينا عبئاً كبيراً حتى نعرف عدونا كما هو عمل على معرفتنا منذ قرون، ولا يمكن فهم تقرير بيرل الحاقد والمضلل بمنأى عن هذه السياقات جميعها وأن الفهم أولى درجات التكافؤ مع عدو يتربص بنا ويسعى لتفكيكنا، ويسعى لضربنا في معتقدنا ووحدتنا عن طريق التضليل الفكري والذي يستخدم فيه أدوات متعددة يأتي في مقدمتها توزيع الأدوار، ويتركنا حيارى إزاء هذا الأمر. هل نصدق مجلساً رسمياً للدفاع القومي، أم نرضى بعبارات تصاغ بدبلوماسية حذرة يتفوه بها المتحدث باسم الإدارة السياسية فهو لا ينفيها ولا ينفذها ولكنه يكتفي بأنها لا تمثل وجهة النظر الرسمية، وسوف نخدع أنفسنا إذا ما صدقنا هذا التضليل المتعمد والرؤية الساعية لجعلنا في حيرة من أمرنا. ولكن ما تتمتع به بلادنا من تاريخ مشرف ووحدة وطنية قوية وتلاحم بين مختلف المؤسسات هو ما يبعث فينا الأمل لمواجهة هذه السياسة التي أوغلت في كذبها وتخرصاتها واستمرأت هذا الطريق الصعب والشاق.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1628  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 386 من 482
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور سعيد عبد الله حارب

الذي رفد المكتبة العربية بستة عشر مؤلفاً في الفكر، والثقافة، والتربية، قادماً خصيصاً للاثنينية من دولة الإمارات العربية المتحدة.