شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
ماتَ مُحدِّثُ العَصْر الشيخ محمد متولي الشعراوي
عندما يموت العَالِمُ الرَّباني تفقد الأمة كثيراً من ضيائها، فهي بهذا الضياء تعيش، وبومضاته تهتدي، وبفكره تدفع عن ذاتها عوامل التخبظ والحيرة، فكيف إذا كانت الأمة تعيش حقبة أقل ما يمكن أن يقال عنها إنها حقبة التشتت والضعف والتي أشار إليها المصطفى صلى الله عليه وسلم في حديثه المعروف سوف تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلةُ على قصعتها، قالوا: أو من قلة يا رسول الله، قال: بل أنتم - يومئذٍ كثير ولكنكم غُثاء كغُثاءِ السَّيل أو كما قال. وهذا الحديث فيه من دلائل صدق النبوة، والتي تُعبر عن واقع مرير يعيشه المسلم، حيث تستغيث المرأة أو تنادي: وامعتصماه وفارُوقها، وذلك السيف المسلول الذي رفض سيدنا أبو بكر - رضي الله عنه - أن يغمده لأن صاحبه - سيدنا خالد بن الوليد - نقش عليه بعظيم المآثر تاريخاً قوياً وناصعاً لأمة الإِسلام والعروبة.
ثلاثة علماء تفجرت علوم القرآن في هذا العصر من ألسنتهم كما يتفجر الينبوع من قاع الأرض فيكون ماؤه صافياً زلالاً: أحدهم جاور في مدينة المختار - صلى الله عليه وسلم - وأخذت عليه الصفوة من أهل العلم في هذا البلد الكريم وهو الشيخ محمد المختار الأمين الجُكني صاحب (أضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن) كأني أنظر إليه يحدث في ((الرُّواق بين الحصوتين)) ينثال العِلم على لسانه فلا يُصدِّقُ المرء أن الله قد جمع له بين علوم شتى من أصول، وحديث، ومنطق، ولغة وبيان، ولكن فضل الله على عباده كبير، ويمر الشهر الكريم - شهر رمضان - والشيخ (الجُكني) لم ينته بعد من الفواتح من الآيات التي أعجزت ببيانها أرباب الصنعة، وأصحاب اللغة المهذبة لغة قريش التي اختارها الله لتكون لسان الرسالة الخاتمة.
والثاني الدكتور محمد عبد الله دراز - الذي ذهب إلى ديار الغرب وعاد ليخرج سِفره الشهير (النبأ العظيم) ولو قرأ أناس اغتروا بشيء من بريق حضارة الغرب هذا الكتاب، لما انحرفت منهم العقول، أو تجرأت الألسن على شرع الله الحنيف، أو أصيبت منهم القلوب بظلمة الشك، ولكن الله - وحده - القادر أن يعيد لهؤلاء القوم رُشدَهم، ويهديهم إلى صراطٍ مستقيم.
أما الثالث من هؤلاء العلماء الربانيين فهو فضيلة الشيخ محمد متولي الشعراوي، رأيته في جامعة الملك عبد العزيز في مطلع التسعينيات يُحدث فإذا المستعمون إليه، والمنصتون إلى علمه، أصحاب الدرجات العلمية العليا، يجلسون بين يديه وكأن على رؤوسهم الطير، فهو إذا حمد الله وصلى على خير خلقه - عليه صلوات الله وسلامه - فتح الله عليه في التفسير بما هو هبة من الله وفُتوح، وعطاء من رب العزة والجلال وتفضل، مع أسلوب بياني رفيع تتصاغر بجانبه أساليب الخطباء وأرباب الصنعة من أهل الكلام؛ ولقد فتح الله على الشيخ الشعراوي بهذا وغيره لتواضعه، فلقد دنوت منه يوماً وهو يجلس في الصحن - حيث متنزَّل الرحمات، وحِمَى البيت الحرام - آنذاك - لأسأله: لماذا لا يكون له درس في بيت الله، وهو المدرس يومئذٍ بكلية الشريعة؟ لقد خفض رأسه واستغرق في التفكير، ثم همس بحيث لا يسمعه إلا صاحب هذه الكلمات المتواضعة ورفيقه أستاذنا الدكتور إبراهيم شعوط - رحمه لله - نعم لقد سمعته يقولها: أيكون مِن الأدب أن أدرس في بلد مقدس كهذا، وفيه من العُلماء مثل فضيلة السيد محمد أمين كتبي؟ لقد كان يعرف الشعراوي ((الكُتبي)) وورعه وزُهده، هذا التواضع منهل شرب منه الشيخ منذ نشأ في قريته التي وُلد فيها بمصر - وبمحافظة الدقهلية - ولازمه طوال حياته.
ولقد أكرمه الله بالجوار عندما درَّس في مدارس الفلاح بمكة فكان الرجال الأفذاذ من أبناء هذا الوطن يتتلمذون عليه، وكانت الفلاح تضمُّ الصفوة من علماء هذا البلد: من أمثال المشائخ: محمد العربي التَّباني، والسيد علوي المالكي، والسيد محمد أمين كتبي، والسيد إسحاق عزوز، والشيخ محمد نور سيف - رحمهم الله - وسواهم، ولكنه عادَه مرة أخرى - ليدرس في قسم الدراسات العليا بجامعة أم القرى - بمكة المكرمة - ولكنه لم يُفكر في أن يعتلي منبر أهل العلم في البلد الحرام، فكانت له هذه المحبة في النفوس، وذلك التلهف على ما يُجريه الله على لسانه من علم، تلهف لا يقتصر على طلاب العلم - وحدهم - ولكنه يشمل عامة الناس وخاصتهم. وإذا كانت الأمة فجعت في هذه الحقبة بموت العلماء العاملين، من أمثال: أحمد جمال، ومحمد الغزالي، وحسن آل الشيخ ومحمد المنتصر الكتاني والسيد إسحاق عزوز، وعبد العزيز بن صالح، فإن فجيعتها في فقد الشيخ الشعراوي - تأتي في زمن أجدبت فيه الأرض، وصوّحت فيه غراس العلم النافع، ورُزئت فيه الأمة الإسلامية بذوي الجهل المُركب الذين يشيحون بوجوهم عن جوهر الدين المتمثل في سماحته ورفقه ووسطيته واعتداله، وتشبثهم بالقشور من كل شيء، إلا أن الله قدير على أن يحفظ للأمة من تبقى من علمائها ويعوضها خيراً في الراحلين.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :751  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 321 من 482
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

سعادة الأستاذة صفية بن زقر

رائدة الفن التشكيلي في المملكة، أول من أسست داراُ للرسم والثقافة والتراث في جدة، شاركت في العديد من المعارض المحلية والإقليمية والدولية .