شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
يوم رحلت عنا إلى مثواك الأخير!
تعودت أن أراك تخرج من الدار منتصب القامة، شامخ الأنف، حسن الهندام، ثم رأيتك وأنت تخرج منها ولكن ليس على تلك الصورة التي تعودت عليها عيناي، وكنت في كل مرة تعود إلى الدار في (المدرَّج) أو في (الزاهدية) أو في (قباء)، ولكنك في هذه المرة خرجت على قدميك، كأني أسمعك وأنت تذكر الله، تستعين به، وتردد ذكر المصطفى - عليه صلوات الله وسلامه - الذي اخترت أنت وآباؤك من قبل سكنى دياره ولم ترض عنها بديلاً، وكأن إحساساً غريباً يتوطن نفسي أن خروجك الأخير هذا لن تعود بعده إلى الدار التي ارتبطت بك، وارتبطت بها منذ زمن.
ويوم وقفت على رأسك في إحدى ليالي الشهر المبارك أشرت إليّ بيدك التي لم أرها تهتز من قبل كاهتزازها في تلك الليلة، اقتربت منك، طبعت قبلة على جبينك الأغر، وإذا بك تبتسم تعيد إليّ ذكرى أحباب ودَّعوا هذه الدنيا قبلك، نشأت أعرفهم أحباباً لك، جلساء في مركازك، يأنسون إليك وتأنس إليهم، وكنت صغيراً آنس بمرآهم كما آنس بحديثهم، ثم صمت وأنت تقول: السوق مزدحمة يا ابني!. وعرفت من ابتسامتك، ومن نظراتك المحلقة في عالم الملكوت، أي سوق أنت تقصد ليست (المناخة) حيث العمامة الصفراء، والعباءة المطرزة التي كان الآخرون في ماضي الزمن يفتحون (رواشين منازلهم) ليروا صورة ذلك الفتى المشرق الوجه، الحاد النبرة، الثابت الخطوة. وليست السوق حيث كان القوم يتحلقون في (باب المصري) أو في رحاب (العنبرية) أو على مشارف (العينية)، إنها سوق (الآخرة) وأنعم بها من سوق لأنها السوق الرابحة.. السوق الخالدة التي لا تعرف الزوال..
وبقيتَ بعد تلك العبارات التي همست بها في أذني همساً.. عيناك مفتوحتان.. ربما ظُن أنهما مفتوحتان على الدنيا في عالم الظاهر، بينما هما تستشرفان عالم الغيب الذي يُحجب عن الأحياء مرآه، ولكن لا بد لهم من ولوجه مهما طال بهم الزمن على ظهر هذه الحياة.
ثم حانت (لحظة الوداع) كانت أشبه بالحال التي ترتخي فيها الأهداب، ويداعب الكرى فيها الأجفان، كانت السبابتان منك مرفوعتين إلى أعلى، والوجه منك يا أبتاه كقطعة قمر، كنت أسمع منكم كبار القوم في بلد المصطفى - صلى الله عليه وسلم - تتحدثون عن تلك الخاتمة الحسنة التي يكرم الله بها جيرانه وجيران نبيه، وكانت لحظات وداعك هي (البرهان) و (الدليل) على ما كنت أسمعه منذ سن اليفاعة، ولكنني رأيته حقاً وأنا على مشارف الكهولة.
ويوم صعد منك السر الإلهي إلى عالم الملكوت، كان (الأذان) يرتفع من جوار الروضة الطاهرة، والضريح المبارك، والمحراب الذي خلدته آيات الوحي الذي تنزل على سيد ولد عدنان - عليه صلوات الله وسلامه - وحملناك إلى دارك الأخيرة، كانت الأكتاف تتزاحم، ولكن الجسد كان يلاحق الزمن توّاقاً لرؤية مثواه الأخير، حيث صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وآل بيته وتابعوه - رضوان الله عليهم أجمعين.
وكم شَقَّت (المَساحِي) من (لَحُود) وكم حَثَونا التُّراب على أكرم الناس وأقربهم إلى قلوبنا، وصدق الله القائل في محكم تنزيله مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى.
رحمك الله يا أبتاه وأسكنك وجميع موتى المسلمين فسيح جناته.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :754  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 301 من 482
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذ محمد عبد الرزاق القشعمي

الكاتب والمحقق والباحث والصحافي المعروف.