شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
مَشَاهِدٌ مِنْ العينية في زَمَنِ النَّقاء
كانت أبوابُ الحَرَم تُوَصَدُ مع الثَّالثة ليلاً - أي بعد صلاة العشاء - قبل أنْ يعرف الناس التوقيت الزَّوالي - وكان النَّاسُ يصعدون إلى سُطوح دورهم - أعلاها - قَبْلَ هذا الوقْت فلقد كانوا يبحثون عن نسمة هواء تهبُّ مِن بين أشجار النَّخِيل، أوْ عَريشة ((العنب)) أَوْ مِنْ ((قيعانِ)) الوَرْدِ والفُلِّ والياسمين، وكانت سَاحَة ((بَابُ السَّلام)) مَهْوَى الأفئدة العاشقة والنُّفوس المتعلقة بالحُبِّ الإلهي وكانت نسماتُ هذا الحُبّ تَسْري في دَوَاخِلهم مِنْ تردْيد باللِّسانِ والقَلْب والمشاعرِ لذكْرِ الله والصَّلاة على نبيِّه ومُصْطَفَاهُ - عليه - صَلوات الله وسلامُهُ - وإذا اقترب العَبْدُ مِنْ خالقِهِ - بالذِّكر - تيقَّنَ أَنَّ له ربًّا خَلَقَهُ، وهو المُتَكفِّلُ به، وإنَّكَ لَتْنعَى على قوْم تنزلقُ ألسنتُهم، ويشتطّون في أفْكارِهم، ويتوهمون أنَّهم كل ما في هذا الكوْن، فتكون الغَفْلَةُ ويكون النِّسيانُ، ويكون البُعْدُ والإقْصَاءُ - أَعَاذَنا الله مِنْ ذلك كُلِّه.
خرج الفَتَى مِن ((الخوْخَة)) وَجَد صديقهُ ابن جَبَل - رحمه الله - يَضَعُ ((الخَصَفَ)) في وَسط السَّاحة، وكثيراً ما اكَتَستْ الدُّور في هذه البلدة الطَّيبة بهذا الصّنف مِنْ ((الفِرَاش))، قبل أنْ تعرفَ الأجيالُ الصَّاعدةُ ((الموكيت)) و ((الكَنَب)). لقد كان الخَصَف تصنعه الأَيْدي، ومعه تصنع كَرَاسِي الشَّريط لتحْصُلَ عَلَى لُقْمةِ العَيْش الحَلاَل في زَمَن النَّقَاء والصَّفاء.
وإذا كان الرِّجال - في ذلك الزَّمن الذي وَلَّى - يصنعون الخَصَفَ مِن ((سَعَفِ)) النَّخِيل بأيديهم، ويخبزُون العَيْشَ البَلدي في دُورهم أوْ حَوْلها. وتحملُ المَرْأَة ((البَيْضَ البَلَدِي))، وربْطَةً مِن النِّعناع المغربي، أو الحَسَاوِي و ((الدّوش)) مِنْ بَسَاتين قباء، والعَوَالي، وقُرْبان، وكانت هذه المرأة تبيع وقد اكتنفَها كثيرٌ مِنْ الحشْمة، و ((خَفْضِ الصَّوْت))، والأَخْذ والعَطَاءَ في البَيْع مِنْ غير تبذُّل، فلَقَدْ كان الإيمانُ يَعْمُرُ القُلُوبَ، وكان النَّاس في البَلَد الطَّاهر يتوقَّعون كثيراً عِنْدَ المثل البلدي القائل ((دَقَّة بدقَّة ولو زِدْنا لزادَ السَّقا))، وهوَ مَثلٌ شَعْبي نابع مِنْ ((بيئة)) عرفتْ مَعَاني الشرف والنَّزاهة، ولا تختلف المرأة عن الرّجل في ذلك، ولا يقلُّ الشاب عن الرجل في تمسُّكهِ بهذه المبادئ والمُثُل.
وجاء - ذات - يَوْم رَجُلٌ ((غريب))، طويل القامة، أسمر اللَّون، مَفْتُول الكتفين، يأخذه زهُو الشَّبَاب وطيشُه بأَنْ يَسْأَل المرأةَ الجَالِسَةَ في شارع العينيِّة - وبالقُرْب مِنْ باب السَّلام حَيْثُ مَثْوى سيِّد الخَلْقِ - عليه صَلَواتُ اللَّه وسلامُهُ - عن ((سِعْر)) مَا تَبيع، ثم يمد يَدَهُ إلى جِسْمِها ويُلاَمِسها في مَوْضع حسَّاس، إنها المرأةُ التي لا تتخلَّى عَنْ شرفها حتى ولو كانت الحاجةُ وضيقُ اليَد هُو ما دَفَعها إلى النُّزول إلى السوق تَاركةً أبناءَها خَلْفها.
في الجهة ((المقابلة)) كان هناك ((حلاَّق)) معروف مِن الإخوة التركستانيين المجاورين حُبًّا في الله ورسُولهِ، وكان هذا الرّجل ((جَرويه)) صغير القامة، ضعيف الجسم، وتقتحمُه عُيُون الناس مِن الغَادين والرَّائحين، وانعكسَ مَنْظرُ الرجل الغريب وهو يَفْعَلُ فعْلتَهُ الشَّنيعةَ على ((المرآة)) التي يَجْلِسُ أمَامَها، وعَلَى كُرْسي خَشبي عتيق زبائنه مِنْ أَهْل المدينة الذي يفضِّلونه على غيره لصمْتهِ، وبُعْده عن سُؤُال النَّاس فيما لا يرغبون في الحديثِ عنه، وتَرَكَ ((جرويه)) مُوسَى الحلاقة ثم انطلق نَحْوَ الرَّجل ((العملاق)) وأمسكَ بتلابيبهِ فإذا الرَّجلُ طَرِيحَ الأرْض، وقد تَضمَّخَ بدمائِهِ، ثم عَادَ صاحبُنا إلى حَانُوتِهِ وكَأَنَّ شيئاً لم يَحْدُثْ، واستمرَّ فيما بَدَأَهُ مِنْ حِلاَقَةِ ذقْن الشَّيْخ الجليل والحافِظِ لكتابِ الله.
لقد أَخَذَ النَّاسَ شيءٌ مِنْ الذُّهُول وكثيرٌ مِن الدَّهْشة فلم يخطر بأذْهَانِهم - يَوْماً - أَنَّ ((جرويه)) عَلَى هذا القَدْرِ مِنْ الشَّجاعةِ والقُوَّة.
رَفَعَ الرجل العملاق - نفسه - مِن فَوْق الأَرْض بعد شيء من العناء وقد اتسختْ ثيابُهُ بالتُّراب، وفي لحظة اعتراف صادقةٍ مَعَ نَفْسِهِ، وَقَفَ أَمَامَ الحانوت وخاطب ((جرويه)) قائلاً: ((عشرةٌ مِنْ أمثَالِكَ لا يقوونَ عَلَى طرْحي، وعلى صُنْع مَا صنعَتُه بي، أيُّها الرَّجُلُ، ولكنني أسَأْتُ الأَدَبَ، حَيْثُ يجب أنْ ألتزمَ به))، وأشارَ بأصبعه إلى ((باب السَّلام))، وكَانَ في مثلِ هذه الإشارة مَعْنًى ودلالة بالغيْن، يعْرفُها حَتَّى أَبْناء ((الحارَّة)) الذين إذا اشتاقَتْ منهم النُّفُوسُ لزيارةِ صَاحِبِ المَقَام السَّني - عليه صلواتُ اللَّه وسلامُهُ - توضؤوا، وصَلُّوا في أَقْربِ مَكان مِن المسجدِ الطَّاهر، ثم سَلَّموا على شَفِيعهم وسيدِهم والحَريص عليهم كما جاء في كتاب الله العزيز - (لقد جاءكم رسولٌ مِنْ أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريصٌ عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم، فإنَّ تولوا فقُل حسبي الله لا له إلاَّ هو عليه توكلت وهو ربُّ العرْش العظيم)، وكانوا مِنْ باب الأدب يَخْفضُونُ الصَّوْتَ والبَصَر - معاً - أخْذاً بالتَّوجيه الإلهي الكريم يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (الحجرات:2).
 
طباعة

تعليق

 القراءات :622  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 298 من 482
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

سعادة الأستاذة صفية بن زقر

رائدة الفن التشكيلي في المملكة، أول من أسست داراُ للرسم والثقافة والتراث في جدة، شاركت في العديد من المعارض المحلية والإقليمية والدولية .