قنطرة الإبداع من الشعراء الثلاثة إلى ما وراء السراب |
بعد توحيد جزيرة العرب على يد المغفور له الملك عبد العزيز، وائتلاف القلوب والبعد عن التنابز بالأنساب والألقاب مما شَكّل دعامة هامة من دعامات البناء الوطني، أخرج الرائد محمد حسن عواد كتابه الأدبي المعروف (خواطر مصرحة)، وأهداه إلى بلاده وأمته. ويعتبر العوّاد بهذا ليس رائداً في الكلمة الأدبية فقط، ولكنه الرائد الذي أدرك مخاطر التفكك، ومزالق التنافر وحتمية التوجه إلى المستقبل تحت راية واحدة، وإننا كما كنا بالأمس بحاجة إلى تمعّن ما افتتح به كتابه من نفثات وطنية - اليوم - أكثر حاجة إلى الوقوف عندها والتعمق في دلالاتها الكبيرة. إلى بلادي.. هذه هي العبارة التي توّج بها العواد إهداءه إلى بني قومه في جزيرة العرب ومهد الإسلام وموئل حضارية، ثم أردف عبارته هذه بأبيات شعرية تحمل التجديد - الحق - الذي انتظرته الأمة كثيراً. |
نفثات حر هذه |
لك من فؤادي يا بلادي |
أنا لا أقول لك اقرئيها |
في المجامع والنوادي |
وترنمي بنظيمها |
ونثيرها ترنيم شادي |
لكن أقول لك اذكري |
إنّي أذبت بها فؤادي |
كيما ألبي داعياً |
في النفس قام بها ينادي
(1)
|
|
وكانت كلمات المرحوم محمد سرور الصبّان الذي أخذ على عاتقه نشر هذا الإصدار المتميز في تاريخنا الأدبي تدل على تلك الروح القوية والتي تسري في نفوس وعلى أقلام أرباب الكلمة الحرة في بلادنا. |
يقول الأديب الوطني (الصبّان): لقد طلع الفجر فاستيقظنا، ونادانا الواجب فلبينا، وبدأنا نسمع صوتنا لمن أنكرنا، وصرّنا نكتب ونشعر، نكتب لنعلم كيف نكتب، ونشعر لنعرف كيف نشعر. |
ولقد حمل إلينا كتاب (الشعراء الثلاثة في الحجاز) للأستاذ المرحوم عبد السلام الساسي إنتاج أولئك المبدعين الذين عايشوا حقبتين، مختلفتين، وعبروا عن واقعهم الاجتماعي خير تعبير، ومنذ خروج كتاب الأستاذ الساسي المذكور ارتبط أدبنا ارتباطاً قوياً بهؤلاء الروّاد وهم: حمزة شحاته، ومحمد حسن عواد، وأحمد قنديل
(2)
. |
.. إلا أن دائرة المبدعين تعدَّت الشعراء الثلاثة - بعد ذلك - إلى ما يقرب من أربعة وعشرين شاعراً وأديباً يمثلون مختلف التيارات الشعرية - آنذاك - وذلك في كتاب (شعراء الحجاز) وإن ظل الشعراء الثلاثة حاضرين بقوة مذهلة بين ذلك العدد الكبير من المبدعين، ولهذا نجد الأستاذ (شحاته)، الذي كتب مقدمة هذا الكتاب الذي أتى صدوره بعد عامين من صدور كتاب الشعراء الثلاثة، يخص بالثناء عدداً ضئيلاً من هؤلاء المبدعين وذلك عندما ختم مقدمته أو بيانه الشعري بقوله: (وبعد فإن من شعراء هذه المجموعة من لا يفخر الحجاز - وحده - بهم وبقية، بل كل بلد عربي وهم السرحان، وعواد، وقنديل، وحسين عرب، وأشباهه في معظم السمات وفي بعضه دون جملتها
(3)
. |
ونجد من شعراء المدينة الذين ضمهم كتاب الأستاذ الساسي الأخير أسماء من أمثال: محمد عمر توفيق، وعلي حافظ وحسين قاضي - رحمهم الله - وعبد الرحمن رفة - أطال الله بقاءه - ولا نعلم لماذا غاب إنتاج عبد الله مدني عن هذه المجموعة مع أنه كان من أوائل الشعراء الذين عبروا في شعرهم عن حب صادق لهذا الوطن، وهذا ما تُمثله قصيدته التي أبدعها قبل التئام كيان هذا البلد وإقصائه لعوامل التناحر القبلي والطائفي، لقد رفع السيد عبيد صوته في غرة ربيع الأول من عام 1344هـ بهذه الأبيات التي تفيض بالمشاعر الوطنية الصادقة: |
هذي المدينة أصبحت ألعوبة |
صماء بين زعانف وغواة |
يستاقها النفر الرعاع ذليلة |
لموارد الويلات والنكبات |
الحكم فوضى والمطامع جمة |
والشعب بينهما فريسة عاتي |
حال تذوب لها الضمائر لوعة |
والموت فيها أهون الحالات
(4)
|
|
وفي سنة 1374هـ، قدم إلى المدينة المنورة الأديب الذي ملأ الدنيا وشغل الناس (طه حسين)، وقف عميد الأدب العربي أمام القبر الطاهر والشريف فأخذه جلال الموقف وعندما طالبه بعض رجال الفكر والأدب في البلدة الطاهرة - ومن بينهم السيدان علي وعثمان حافظ، والأستاذ عبد العزيز الربيع - رحمهم الله، التحدث عن الموقف لم يزد على القول: |
(كيف أستطيع الكلام في بلد صاحب الرسالة عليه أفضل الصلاة والسلام، إنني أجد نفسي مأخوذاً بجلال الموقف، وهيبة هذا البلد المقدس، وذكرياته العظيمة في تاريخ العالم، ولا أستطيع أن أقول شيئاً إلا أنني أحيي صاحب الرسالة ثم المدينة وأهل المدينة
(5)
. |
وأردف العميد - متواضعاً في الحضرة النبوية الشريفة - القول: وأنتم هنا في المدينة المنورة، مدينة السلام، تعيشون هذا الإحساس، ولقد وددت الاستطراد في الحديث، ولكن أنَّى لي هذا، والله سبحانه وتعالى يقول يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ
(6)
(الحجرات: 3 ). |
وعند وداعه لمدينة الحبيب صلى الله عليه وسلم طلب منه الأستاذان أحمد عبد الغفور عطّار وناصر المنقور، أن يستمع لصوت فتى يافع من فتيان المدينة - لم يبلغ بعد - الثانية عشرة من عمره. وكان الفتى قد تفتق لسانه عن شعر صادق، فقال على مسمع العميد المتأدب: |
أسمع العالمين لحن الخلود |
وأنرْ بالبيان كل الوجود |
جئت يا ذا اليراعة أشكو |
حال قوم لم يقتدوا بالجدود |
أيها القوم جددوا كل عزم |
واجمعوا كل طارف وتليد |
إنما العز بالمعارف والإيمان |
لا بالتهريج والتقليد |
هو ذا صوت أحمد منْ وراء |
الغيب يدعوكم لدنيا الصعود
(7)
|
|
وتحدث طه حسين يسأل الفتى المدني عن اسمه وعمره، ومستواه الدراسي، فأجاب الفتى بلسان عربي مبين، ولم يكن ذلك الفتى - آنذاك سوى الأديب الشاعر الأستاذ محمد كامل خجا. |
وفي عام 1373هـ أصدر الأستاذ محمد هاشم رشيد - يرحمه الله - ديوانه الأول (وراء السراب) وكان يبلغ من العمر حوالي خمسة وعشرين عاماً، وكتب صديقه السيد عبد السلام حافظ مقدمة لهذا الديوان، ووصفه بالشاعر الملهم وقال عنه بأسلوب رومانسي - هو وليد تلك الحقبة التي عرفت مدرستي الديوان وأبللو التجديديتين ((هكذا دائماً هو الشاعر الملهم السيد هاشم - حاضر البديهة، يفيض بالأحاسيس، ويبدع بالأنغام، ويعربد بالأناشيد والخيالات ومصدر كل هذا وجدانه السليم، السامي، وقلبه اليقظ الطروب الذي لا يعرف غير الصفا والمرح، وهو في قصائد ديوانه يتمشى مع مذاهب التجديد التي تتكوّن لها اليوم مدرستها الخاصة))
(8)
. |
وفي السنة نفسها أصدر أحد مؤسسي أسرة الوادي المبارك وهو السيد ماجد أسعد الحسيني ديوانه الأول الموسم (حيرة)، إلا أن الأستاذ عبد الفتاح أبو مدين ذكر في (علامات) أن هناك ديواناً مخطوطاً للحُسيني (النجوي) ويرجع تاريخ قصائده إلى الستينيات الهجرية
(9)
، وكتب مقدمته الأستاذ القاص أحمد رضا جوجو بتاريخ 16/5/1364هـ. |
لقد ساهم المرحوم محمد هاشم رشيد في إثراء الحركة الأدبية في المدينة من خلال أسرة (الوادي المبارك) و(نادى المدينة الأدبي) ووزارة الإعلام، كما ساهم مع زملاء له من أمثال الشعراء: عبد السلام هاشم حافظ، وماجد الحسيني، ومحمد العيد الخطراوي، وحسن الصيرفي، ومحمد العامر الرميح، ومحمد كامل خجا في تطوير بُنية القصيدة الشعرية الحديثة في بلادنا وذلك مع نظراء لهم من أمثال: حسن عبد الله القرشي، وعبد العزيز الرفاعي، وعبد الله إدريس، وطاهر زمخشري، وسعد البواردي وحمد الحجي وغيرهم، فاصبحت القصيدة على أيديهم أكثر التصاقاً بهموم الفرد، والأقدر على التعبير عن تطلعاته وأمانيه ونأوا بها عن طلاسم القول في الأدب القديم والحديث - معاً - ولهذا كانوا روّاداً يستحقون من أمتهم كل حب وتقدير وثناء، ورحم الله الأستاذ (الرشيد) الذي قادنا إلى هذه الإطلالة العجلى على مراحل تطور أدبنا المحلي المتجذر في تاريخ الأمة رؤية وعاطفة وحساً وطنياً صادقاً. |
|