شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
عندما يختفي رجل.. ويموت أديب
(حسين عرب)
لعلّ المرء يسأل نفسه: لماذا أحب هذا المكان دون غيره؟ ولماذا يؤثره دون الأشياء الأخرى بعاطفته وتطمئن نفسه في حالة القرب له ويحن إليه في حالة البعد؟ ولكنه في حالة الحب أو الحنين لمكة شرفها الله ولمدينة الحبيب صلى الله عليه وسلم لا يستطيع ذلك الإنسان تفسير ما تنطوي عليه النفس من حب وشوق وهيام، فلقد فطر الله النفوس المؤمنة والصادقة على حب بيته المعظّم ومثوى مصطفاه الأغر، فهنيئاً لمن سكن وجاور ولمن قصد وزار وسلم.
وطئت قدماي (مكة) المعظمة في أواخر الثمانينيات الهجرية، أسرتني - آنذاك - بروحانيتها، فهي نقطة هذا الكون ودائرته منها تشع الأنوار على هذا الكون، هذا المطاف وذلك المقام والحجر، وهذا الشعب حيث ولد سيد الكائنات حقاً، وقدوتهم ومعلمهم وشفيعهم حيث هرولت (ثويبة) من شعب بني هاشم لتخبر سراة بني هاشم بأن - آمنة - الآمنة من المخاوف - بإذن الله - قد أهدت مولوداً لفتى قريش عبد الله بن عبد المطلب الذي شاءت قدرة الله أن يحل ضيفاً عند قدومه من الشام على أخوال والده من بني النجار في يثرب التي أضحت فيما بعد منورة بالحبيب صلى الله عليه وسلم وتعاليمه وما زالت كذلك حتى يرث الله الأرض ومن عليها، ورقد عبد الله في ديار خؤولته (دار النابغة) فيما عرف بعد باسم زقاق (الطوال) وما إن نطقت (ثويبة) بكلمات البشرى حتى قال لها سيدها أبو لهب: أنت حرة طليقة، وما علم أبو لهب، الذي ناصب ابن أخيه العداء فيما بعد ومات كافراً، أن الله سوف يخفف عنه بهذه الفرحة الصادقة ما هو فيه من عذاب في الآخرة، فلقد قال العباس بن عبد المطلب - رضي الله عنه - كما أورده الإِمام البخاري في صحيحه بإسناد إلى عروة بن الزبير مرسلاً، يقول العباس بأنه رأى أبا لهب في النوم بعد وفاته فسأله عن حاله فقال: لم ألق خيراً بعدكم - غير أن سقيت في هذه بعتاقتي - ثويبة - وإنه ليخفف علي في كل يوم الاثنين.
يحس الإنسان المؤمن بانشراح صدره عند قدومه إلى مكة ففيها ولد الحبيب عليه صلاة الله وسلامه ولا تزال أنوار تلك الساعة الفاصلة بين الحق والباطل في التاريخ تظلل جبال مكة ووديانها وسماءها وساحاتها ودورها.
ولن تخطئ عيناك وأنت داخل إلى مكة قبل حوالي ثلاثة عقود وأكثر تلك الدار المتميزة في بنائها البسيط والجميل - في آن - وأمامها شرفة تطل على ذلك المرقى الذي كان يسلكه، الناس على أرجلهم أو مطيهم، وكانت الشرفة تعمر بروّادها من بعد صلاة المغرب، وقدم المرحوم السيد حسين هاشم من المدينة زائراً وسألني - أبو طلال - هل تعرف دار الأستاذ حسين عرب، فأسرعت أجيبه بنعم!! ورأيته ينظر إلى الأفق ويخاطبني قائلاً: لقد كان صديقي منذ أيام الشباب - ويبدو - أن صاحب ذلك الصوت الجميل والشجي قد عاش فترة من حياته بين جنبات الأرض المباركة، وصلنا إلى الدار واحتفى صاحب الدار بالقادمين. وأهل مكة من أكثر الناس حباً لمدينة الحبيب صلى الله عليه وسلم والتأدب فيها، وصديقاي أحمد زكي يماني ومحمد عمر العامودي يعلمان أنني مكي الهوى ولا تثريب علي في الإقرار بذلك، وكان مجلس الأستاذ (عرب) يضم الأستاذ الكبير أحمد عبد الغفور عطار، والمؤرخ الكبير عبد القدوس الأنصاري والأستاذ الراوية عبد السلام بن طاهر الساسي رحمهم الله جميعاً.
كان الأستاذ عرب حينها (عام 1393هـ) في الخمسينيات من عمره وينضح وجهه بالحياة، مع أنه غادر منصب الوزارة وهو في الأربعينيات من عمره، وسمعت السيد أحمد زكي يماني يقول يوماً: كنت في الوزارة التي تشكلت، وكان حسين عرب وزيراً فيها. ومع أنه لم يمض، (أي عرب) وقتاً طويلاً فيها إلا أنه كان إنساناً مهذباً ورقيقاً. لقد كان (حسين عرب) شاعراً وأديباً قبل أن يكون وزيراً وإن أظهر في بداية حياته قدراً كبيراً من المعرفة بشؤون الإدارة، ولقد أكد لي شخصياً المرحوم الشاعر السيد علي حسين عامر صفة مناصب عدة، فكان أول رئيس لديوان الموظفين ثم وكيلاً لوزارة المواصلات، ثم اعتزل الحياة الإدارية وتفرغ لقول الشعر عذباً فيه إلى مواطن صباه بين سلع والعنبرية.
لقد انطبعت شخصية (عرب) بصفات عدة منها الأريحية، والكرم والجرأة في قول الحق وبذلك الجاه لمن يطرق بابه وحتى بعد أن وهن وضعف لم يكن يشيح بوجهه عن عامة الناس وخاصتهم وكان يشاركه في هذه السمة الرجولية الرفيعة رجال أمثال: السيد علوي المالكي والشيخ عبد الملك آل الشيخ ومحمد سرور الصبان، والفريق طه خصيفان والشيخ عرابي سجيني وصالح وأحمد جمال، وعبد الله وحمزة بصنوي وإبراهيم فودة، وعبد الله بن ظافر، والشريف شاكر بن هزاع، والشريف عبد الله مسعود، ومحمد حابس، وصديق دمنهوري، ومحمد سفر وصالح قزاز، وزيني حسن، والشريف مساعد بن منصور، وبكر تونسي وصديق جان شاه وغيرهم من رجال الوطن الكريم والمعطاء.
وإذا كان المرحوم (عرب) قال الشعر في يفاعته وبدأ في النشر مع بداية الخمسينيات الهجرية، إلا أن أعماله الشعرية الكاملة لم تظهر إلا في عام 1403هـ، في مجلدين كاملين وكتب لها مقدمة الدكتور عبد الله الغذامي ولم يستطع فيها التخلص - للأسف الشديد - من نزعة الحداثي الذي هجره فيما بعد في رؤيته لإبداع الشاعر عرب، فجاءت المقدمة على شمولها تحمل وزر عدم أخذه بالمنهج الشعري الشكلاني. وهل يمكننا أن نطلب في إنتاج شحاته والعواد وقنديل والسنوسي، وعبيد مدني، والرفاعي، وعبد الله بن خميس ما يتواءم مع المنهج الألسني الذي ضاعت ملامح شحاتة الحقيقية بسببه في (الخطيئة والتكفير)؟ ويقرر الناقد المعروف جورج واطسن في كتابه (الفكر الأدبي المعاصر) إلى سلبية التنظير ذي الرؤية الواحدة والقائم على الشكلانية والتي تعد مرحلة منقرضة من مراحل تاريخ الأدب الغربي، يقول (واطسن) منتقداً هذا المنحى النقدي ومشيراً إلى ابتعاد منظريه من أمثال (ليفي شتراوس) في معهد (كوليج دي فرانس) لتلامذته ستجدون الكثير من الصدق في هذا إن أطلتم النظر فيه. قال هذا الكلام وهو يشير إلى السبورة في قاعة الدرس وقد رسم عليها رسماً بيانياً لتماثلات من المحرمات في مجالي (الجنس) والطعام، وكان (ليفي شتراوس) عنه في مرحلة لاحقة، وما زلت أذكر شخصياً قول أستاذ من مريدي (ليفي شتراوس) نفسه - حينذاك جالساً في الصف الأمامي يبدو على وجهه الملل من هذا الكلام واستمر يلعب بقلمه على الورقة التي أمامه. لقد وجد هو الكثير في مثل هذه الأشياء من قبل عدة سنوات، ولقد بدأ يضجر منذ وقت بوسيلة التحليل هذه التي أبدعها).
إلا أن حمزة شحاته في بيانه الشعري الذي كتبه قبل أكثر من نصف قرن والذي ضمنه مقدمة كتاب (شعراء الحجاز في العصر الحديث) قد أنصف حسين عرب أكثر من غيره عندما سلكه في عداد الشعراء الروّاد الذين يكبرونه سناً ومقاماً أدبياً آنذاك، لذا نجده يختتم مقدمته النقدية قائلاً بكل وضوح وبساطة ومصداقية: (وبعد فإن من شعراء، هذه المجموعة من لا يفخر الحجاز - وحده - بهم، ويتيه، بل في كل بلد عربي وهم السرحان، وعواد، وقنديل، وحسين عرب، وأشباههم في معظم السمات وفي بعضها دون جملتها).
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1156  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 279 من 482
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

سعادة الدكتور واسيني الأعرج

الروائي الجزائري الفرنسي المعروف الذي يعمل حالياً أستاذ كرسي في جامعة الجزائر المركزية وجامعة السوربون في باريس، له 21 رواية، قادماً خصيصاً من باريس للاثنينية.