شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
قراءة نقدية في بيان حمزة شحاتة الشعري (2)
في المقدمة النقدية لكتاب الأستاذ عبد السلام الساسي (شعراء الحجاز في العصر الحديث) يربط ((حمزة شحاتة)) بين الشعر كفن من فنون القول وبين الحياة وما يدور فيها، وهو بهذا التوجه النقدي يلغي الفكرة التي تشبث بها بعضهم وهي دراسة الشاعر أو الأديب بعيداً عن البيئة التي عاش فيها والظروف التي أحاطت بشخصيته عند تعامله بما تزخر به الحياة من سعادة أو شقاء، وحب أو بغض، وثراء أو فقر، وترف أو معاناة، يقول شاعرنا الذي أجاد إبداع النثر كإبداعه الشعر وذهب إلى أبعد من ذلك فاخترق ميدان النقد عن معرفة وإدراك عميقين، يقول ((شحاتة)) تلك الصلة الوثيقة بين الشعر والحياة وكأن كل واحد منهما معادل للآخر، أو موازٍ له، إن يواعث الشعر فكرية كانت أو نفسية، هي ذات بواعث الحياة وانفعالاتها، ومعانيه وخيالاته وصوره هي التي تجول في كل نفس وفكر، غامضة مكبوحة أو واضحة طليقة، وباهتة أو لامعة (انظر: شعراء الحجاز - المقدمة).
وما يذهب إليه (شحاتة)، من آراء نقدية في هذه المقدمة، لا يعكس فقط ثقافته الواسعة في فنون الأدب وما يتصل بها، بل إن المقدمة تعكس ولع ((شحاتة)) بالمقولات الفلسفية والتنظيرات المنطقية، وخاصة إذا علمنا أن شحاتة كان (فلاحياً) - نسبة إلى مدارس الفلاح المشهورة في مكة المكرمة وجدة - فلقد كانت هناك عناية بتدريس فن المنطق في مناهجها التعليمية بل كان طلاب العلم في المساجد يقرأون (إيساغوجي) وهو مقدمة في علم المنطق، ولقد استطاع الإمام أبو الحسن الأشعري - رحمه الله - أن ينتصر لأهل السنة والجماعة من خلال إجادته لعلم المنطق الذي كانت تجيده فرقة المعتزلة وتسخره في ترويج أفكارها ومقولاتها المعروفة.
فكان شحاتة يمزج بين الشعر والفكر والمنطق، دون أن يفسد الفكر رصانة الأسلوب ووضوحه، ودون أن يفرق في المقولات المنطقية المعقدة فينصرف القارىء عما يقول، بل إنه يدمج ذلك كله في بناء واحد. وهذا يجعل حمزة نسيج وحده شاعراً وناقداً ومفكراً. ويُبعد عنه ظلال التأثر بالمدارس النقدية التي ظهرت في عصر النهضة الأدبية العربية مثل (الديوان)، و(المهجر) وهذه الأخيرة لم يسلم من تأثيرها شاعر كبير مثل محمد حسن عواد رحمه الله، يقول (شحاتة) في قضية تأثر الشعر بالغناء ((وندير الكلام على طريقة أخرى، فنقول: إن بواعث الشعر هي بواعث الغناء في كل نفس إنسانية، ونظن الأمر في هذه الفكرة من الوضوح بحيث لا يحتاج إلى دليل أو موازنة)) (1) ، ولا يكتفي أديبنا الكبير بالتنبيه إلى بواعث الشعر ومشابهتها لبواعث الغناء أو الإنشاد فحسب، بل إنه يذهب إلى أبعد من ذلك، فيُقلِّب الأمر على وجوه عدة، حتى يستقر ما يذهب إليه من رأي في عقول ونفوس المطلعين على هذه الصحيفة النقدية المتميزة، فهو يفرق بين غناء ذاتي يُقصد من ورائه تحقق المتعة الشخصية المحضة، وبين غناء للحياة، وهذا الأخير غناء إنساني النزعة، شمولي التوجه... يقول ((شحاتة)) في التفريق بين الاثنين (وباعث الغناء يقر في نفس كل إنسان - تقريباً - فكل إنسان يغني لنفسه بكلام ذي معنى يصنعه ويستعيره، أو يدندن بشيء يقل أو ينعدم نصيب المعنى وأثره فيه، وما في ذلك ضير ولا به غرابة، فهو طبيعي بل ضروري في كثير من الأحوال فلو سأل سائل لماذا يُغني الإنسان لنفسه؟ لما كان هذا السؤال إنكاراً أو اعتراضاً، وإنما يكون تقصياً للأسباب والبواعث والعلل))، وهذه العبارة السابقة يشير فيها (شحاتة) بوضوح إلى أن الإنسان إذا أنشد وبالتالي إذا ما أبدع، فإنه يحب أن يكون إنشاده أو إبداعه ذا معنى إذا ما قصد به التوجه للآخرين، ولكنه من منطلق حرية القول يقر له أنه بإمكانه أن ينشد أو يبدع إبداعاً ليس للمعنى وللفكر فيه نصيب، ولكن من منطلق الحرص على أذواق الآخرين أو توجهاتهم يتوجب عليه أن يحتفظ به لنفسه، فلا يضايقهم ولا يزعجهم به، وليت (شحاتة) الذي كان يجيد الغناء، ويعرف مداخل النغم ومخارجه معرفة المتمكن والقادر، عاش لهذا الوقت الذي أصبح فيه ميدان الشعر والإنشاد حمى مستباحاً، وأن الغُثاء في الاثنين - معاً - هو الذي يجذب انتباه العامة والخاصة - معاً - وأن الشعر (الحلمنتيشي) الذي كان يبدعه - شخصياً - ومعه صديقاه ((القنديل)) والعُتيبي، يعتبر فصيحاً، إن لم يكن في الذروة من الفصاحة بجانب ما يقال في هذا اللون من الشعر، وأن الجيد منه ضاع في صخب أو جلبة الرديء والغث الذي أفسد الأذواق أو هي فسدت معه.
والعبارة التالية يُوضح شحاتة من خلالها كيف يكون الإنشاد الإنساني أداء وقوة، وألا يطغى فيه الشكل على المضمون، ويفترض فيه - أيضاً - أن تكون الموسيقى في تعزيز المعنى وترسيخه، وإلا كان ذلك من باب رفع العقيرة بما لا يحسن من القول، ولا يستساغ من الإنشاد.
تقول عبارة شحاتة: والإنسان إذا غنَّى للناس - احترافاً أو هواية - كان أول واجباته وأخلقها بالالتزام والرعاية من جانبه أن لا يقول شيئاً على أنه باب من أبواب الكلام يُفهم، بل شيئاً يستجاب ويُطرب، ويُحرك الإقبال من باب حُسن التصويت، ورخامة التنغيم، وقوة الاستجابة للمشاعر أولاً، فهذه الصفات تُنزله منزلة الأسلوب واتساق العرض وجماله، وتأثيره في بسط النفس واجتذابها إلى ما تحتها، أو وراءها من غرض هذا المعنى الماثل في المقطوعة المُغناة، أو القول المردد)).
ولقد استطاع (شحاتة) أن يحقق هذه المعادلة الصعبة التي ذهب إليها فيما سطره في هذه المقدمة المليئة بالمعاني النقدية التي تمنح من تجربته الشعرية والفكرية والفلسفية، ويعترف الناقد الكبير المرحوم ((عزيز ضياء))، بما كانت تثيره قصائد شحاتة لدى مجايليه من أهل الأدب والشعر فيشير إلى ذلك في المقدمة التي كتبها لديوانه الشعري اليتيم قائلاً: ((ولعلي لا أثير ذكريات غمرتها رمال الزمان، إذ قلت: إن قصيدته القصيرة التي مطلعها:
بعد صفو الهوى، وطيب الوفاق
عزّ حتى السلام عند التلاقي
كانت تتردد على أذهان المجموعة في هوس، أو هلوسة لا تكاد تهدأ حتى تثور (2) .
وإذا كان الأستاذ محمد حسين زيدان - رحمه الله - قال مرة في حديث أجراه معه الدكتور الأديب عبد الله مناع في مجلة (إقرأ) عندما كان رئيساً لتحريرها، قد أشار إلى أسباب عدم خروج (شحاتة) من الدائرة المحلية إلى الدائرة العربية الأكبر، قال الزيدان بأسلوبه المُجنح. ((ولكن القصور وفقدان الحَظْوة، قد جعلا من حمزة ما يستحق)). فإن الأب عزيز في معرض مقارنته لقصيدتين شهيرتين ل(شحاتة) و(القنديل) - رحمهما الله - يُعرّج على هذه الناحية المهمة فيقول: ((وتطل القصيدتان، تعيش كل منهما حياتها في الأذهان، رائعة من روائع الإبداع، لو قدّر لهما أن تجدا مجالهما للنشر في العالم العربي منذ ما يقرب من ربع قرن من الزمان، لكان من الطبيعي أن تتصدرا الكثير من الأعمال الفنية، التي كانت تصطخب بها حركة الإبداع في هذا العالم، ومصر منه - بخاصة - التي كنا نتهافت على ما يتسلل إلينا منها بين الحين والآخر)).
 
طباعة

تعليق

 القراءات :928  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 266 من 482
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذ الدكتور عبد الله بن أحمد الفيفي

الشاعر والأديب والناقد, عضو مجلس الشورى، الأستاذ بجامعة الملك سعود، له أكثر من 14 مؤلفاً في الشعر والنقد والأدب.