مثقفون عرب ولكن بدون هوية |
تحدث الأستاذ الفاضل محمد صلاح الدين في ((رؤيته المعاصرة)) عن موضوع افتتاح مؤسسات تعليمية أجنبية في بلاد عربية مسلمة تهدف لاستقطاب النخبة القادرة في العالم العربي والإسلامي وتغريب روحها وعقلها
(1)
. ولا شك في أن الكاتب الكريم قد أصاب الحقيقة في تفسيره للأهداف المعلنة والمضمرة من وراء وجود هذه المؤسسات التي يروج لها على أنها تهدف لتهيئة كوادر علمية لإِدارة المشاريع والشؤون المحلية في البلاد التي تتهيأ لأبنائها فرص الدراسة في هذه المؤسسات عن طريق منح وامتيازات خاصة. |
ـ والأمر في نشر الثقافة الأجنبية في بعض البلاد العربية والأفريقية وما يترتب على ذلك في بعض الأحيان من ترسيخ مفاهيم معينة ينطلق منها البعض بقوة وحماس كبيرين نحو تغيير البنيات الثقافية لهذه المجتمعات لا يقتصر فقط على إقامة مثل هذه المؤسسات بل هناك مخطط عام لتهيئة المبتورين من الكُتَّاب والمبدعين عن طريق منحهم الجوائز الثقافية وكذلك إفساح المجال أمامهم للتدريس في أكثر الجامعات شهرة وأرقاها مستوى من حيث الإمكانيات والوسائل العلمية في الوقت الذي تشكو فيه كثير من هذه الجامعات الغربية من السياسة الاقتصادية المتقشفة والمُتَّبعة من قبل حكومتها والتي تهدف إلى دمج الأقسام المتشابهة وتقليص عدد الأساتذة والمحاضرين فيها، ورفع الرسوم الدراسية على الطلاب الراغبين في الانضمام إلى هذه الجامعات. |
ـ ويكفينا شاهداً حياً في هذه القضية منح الجائزة الوطنية الكبرى للآداب في فرنسا للكاتب الجزائري ((كاتب ياسين)) عام 1986
(2)
كما حصل ((الطاهر بن جلون)) عام 1987م على جائزة (الجنكور)
(3)
ويحظى كتّاب آخرون مثل (رشيد بوجدره) و ((الطاهر وطَّار)) و ((محمد شكري)) برعاية كبيرة من المؤسسات الإِعلامية والثقافية في البلاد الغربية. ومع أن هذه الأسماء التي يكتب أصحابها أدباً يستمد مضمونه من المجتمعات العربية وفي أحايين كثيرة بلغة غير عربية، هي أسماء تُعلن بوضوح انتماءها للأيديولوجية الماركسية حتى وإن تخلى الماركسيون أنفسهم عن هذه العقيدة، فكاتب ياسين صرح بأنه يفتخر بالتسمية التي تطلق عليه وهي ((كاتب لينين)) وأنه يعتبر هذه التسمية شرفاً كبيراً له لأنها تعود لأفكاره اليسارية. وقد جاء هذا التصريح ضمن إجابة عن أسئلة وجهها له - ولعدد آخر من الكتاب في البلاد العربية - الكاتبان الفرنسيان ((لوك باربولسكو)) و ((فيليب كاردينال))
(4)
حول الإِسلام وتطبيقه في المجتمعات العربية. وأما ((الطاهر وطار)) فهو لا يريد أن يحيد قيد أنملة عن الإِيمان بالمبدأ القائل (الدين أفيون الشعوب)
(5)
. |
ومثله ((رشيد بوجدرة)) الذي يرفع عقيرته قائلاً: ((أنا شيوعي خلافاً لكثير من المثقفين والأدباء العرب أصحاب النزعات اليسارية المترددة، ولا يختلف كثيراً عن هذه الفئة ((محمد أركون)) الذي تنازعه جامعات أجنبية مثل جامعتي لوس أنجلوس ولوفان مع الجامعات الفرنسية الكبرى مع ملاحظة أن اللغة الأساسية للكاتب هي اللغة الفرنسية. يصرح ((أركون)) دون مواربة بأن (الإِسلام ليس نظاماً للحكم لا تاريخياً ولا عقائدياً) ويشتط في أحكامه الجائرة قائلاً: إن الدولة الأموية لم تكن إسلامية ومثلها الخلافة العباسية
(6)
. ويدعو لإِعادة النظر في مجموع التقاليد الإسلامية لتوحيدها وكشف الرواسب المتراكمة التي اعترتها
(7)
. وهو يرجع وجود مثل هذه الرواسب لما يسميه بسلطان النص المطلق
(8)
ومعروف ما يعنيه الكاتب بهذا فهو يشير إلى كتاب الله الكريم القرآن. ولا شك في أن عبارات أركون هذه تدل على جهل مركب بالدين الإِسلامي ونصوصه ومعرفة أحكامه معرفة حقيقية وذلك للتغريب الذي يتعمق شخصيته فكراً وروحاً ومنهجاً وهو مع هذا الجهل المطلق والعقلية اليسارية المنغلقة لا يفتأ ينصب نفسه متكلماً باسم الإِسلام والمسلمين في بعض الندوات التي تعقدها الجامعات الغربية كما حدث ذلك في الندوة التي أقامتها جمعية الصداقة الفرنسية - العربية والتي دعا فيها إلى علمنة الإِسلام تحت ستار ما سماه بالتبادل الثقافي. يقول أركون في تلك الندوة: من هنا نستطيع أن نخطط للتبادل الثقافي في كلا الاتجاهين وليس في اتجاه واحد فقط فالعرب يمكنهم أن يفيدوا كثيراً من فرنسا ومن التيارات الفكرية والتحررية والجادة في الثقافة الفرنسية وهنا أشير على وجه الخصوص إلى مسألة العلمنة في فرنسا منذ ثورة 1789م ويمكن أن ينتهز العرب الفرصة لحل أكبر مشكلة مطروحة على المجتمعات العربية والإِسلامية وهم يحلونها عن طريق توليد فكري تحليلي وتنويري داخل الإِسلام والثقافة العربية وهذا الفكر غير موجود للأسف حتى اليوم
(9)
. |
يعترف - إذن - أركون بأن الثقافة الإِسلامية والفكر العربي يرفضان الفكر التحرري والتيار العلماني وهو يتأسف على عدم الاستفادة من هذه التيارات الفكرية التي يصفها بأنها جادة ولهذا يتطلع إلى رؤيتها داخل كياننا الإِسلامي الذي يختلف كل الاختلاف عن الكيان الغربي. |
ـ وليس من الضروري - بمكان - أن يربط أركون بين وجود العرب في المجتمعات الغربية وبين انتحالهم لهوية ثقافية غير هويتهم. وأركون بهذا ليس يدعوهم إلى خير سوف يفيدون منه كما يتصور بل هو يدفع بهم - بدعوته هذه - إلى الدمار الذي يحطم وجودهم فضلاً عن استمداده لأسباب الحياة والقوة. |
إن مسلمي الأمس الذين انفتحوا على الثقافات الأخرى لم يكونوا بهذه التبعية الفكرية التي يتصورها أركون والذي ينطلق من معايير فكرية تختلف عن المعايير الإِسلامية في منطلقاتها ووسائلها. لقد كان لمسلمي الأمس وجودهم الخاص الذي أثر بشكل واضح على الأمم الأخرى ولم يرتض ذاته موضعاً للتلقي السلبي والانبهار الحضاري المميت. وما على مسلمي اليوم - إن أرادوا تقدير الأمم الأخرى واحترامها - إلا التشبث بكل الأسس التي وجدت في دينهم الحنيف والاعتزاز بالتراث الفكري الذي خلفه السلف الصالح من أمة الإِسلام. |
ـ ولعلّه من المفيد في هذا الشأن أن نذكر أن المجتمعات اليهودية التي تعيش منذ قرون متعددة في البلاد الغربية تتعامل مع الحضارة الأوروبية من منطلق الاعتزاز بالتراث الديني والفكري الخاص بها، هذا التراث الذي ربط رئيس اتحاد الأدباء العبريين ((حاييم هزاز)) بينه وبين وجود الشعب اليهودي في قوله: إن عبقرية الشعب اليهودي تكمن في ذاكرته التي ظلت تعي على امتداد عشرين قرناً كونه وحدة غير قابلة للتفتت
(10)
بل إن هذه المجتمعات اليهودية لا ترضى التفريط في أقل الأشياء كاللباس والأكل مثلاً وهو ما جعل النظرة الأوروبية إلى التراث اليهودي تتسم دوماً بالإِكبار والإِعجاب
(11)
. |
ـ ولا يكتفي أركون بهذا التناول الذي يحاول الربط بين أمتين أو حضارتين تختلفان جذرياً كل الاختلاف ولا يمكن قياس واحدة منهما على الأخرى لأن الحضارة نظام كامل يشمل وحدات هامة مثل التصور العقدي للكون والسلوك الاجتماعي والنظام الاقتصادي ولا يمكن أن نتصور بهذه السهولة انتزاع وحدة من هذه الوحدات لنستنبتها في أرض غير أرضها وبيئة تتباين عن بيئتها وسياق اجتماعي غير سياقها وسوف تكون إلى الشذوذ والغرابة أقرب منها إلى أي شيء آخر. |
ـ نعم لم يكتف بذلك بل أراد أن يجعل من نفسه مفسراً كبيراً وفقيهاً مجتهداً يفسر آيات الله على هواه، ويتناول كتاب الله الكريم من مفهوم النص المفتوح القابل للقراءات المتعددة. وهذا يُستدل به على خلفيته الفكرية المتشبعة بالمذاهب الأدبية الحديثة مثل البنيوية وغيرها ولكنه يشير إلى ظاهرة خطيرة يجب التنبه إليها والتحذير منها لأنه إذا اقتحم ميدان دراسات القرآن من ينتمي إلى الإِسلام باسمه وتجرأ على قدسيته وشكك في مصدره الإِلهي وغمز ولمز في قضايا إعجازه فإن ذلك سوف يكون حافزاً لغيره من المسلمين في التنفيس عن أحقادهم الدفينة من خلال جعل موضوع الدراسات القرآنية ميداناً مفتوحاً وحمى مباحاً يدخله من يشاء مفسراً على هواه أو انطلاقاً من تصوراته الخاصة ودلالالته ومقاصده ومعانيه. |
ـ يقول أركون في الفصل الأول من هذا الكتاب وتحت عنوان مفهوم كلام الله: إن تعريفنا القرآن يتيح لنا دراسة مفهوم كلام الله باعتباره موضوعاً لغوياً، وبذا نتساءل ما هي السبل اللغوية والأدبية بالمعنى الصحيح التي يشيد بها النص القرآني بنية علاقة إدراك - شعور مرتكز إلى مفهوم إله حي مبدع متعالٍ. ومن الثابت المعلوم جداً في الواقع أن معاصري ((محمد)) قد تأثروا وسرعان ما رضخوا للشكل الخارق وللكلام المبلغ باسم الله، والقرآن ذاته يقدم الحاصل الأدبي لهذا الكلام على أنه لا يقلد
(12)
. |
ـ وأول ما نلاحظه بوضوح على هذا التعريف ((الأركوني)) هو تعامله مع القرآن على أنه نص لغوي ثم يجعل موضوع التأثر بهذا الكلام هو السبب في الرضوخ إلى أحكامه نافياً أن مسلمي العصر الأول كانوا يناقشون - كما تثبت كتب السيرة - الرسول - صلى الله عليه وسلم - في جميع المسائل والأحكام وكذلك فعلوا مع أصحابه - رضوان الله عليهم . |
ـ ثم يحدد موقفه من مصدر القرآن عندما يقول المبلغ باسم الله وليرجع أركون إلى القرآن إن كان بإمكانه قراءته لأن القرآن يتأبى على ذوي النفوس السقيمة والقلوب الزائغة. ليرجع ويقرأ قراءة واعية تلك الآيات التي نزلت في تحذير الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الميل إلى آراء المشركين وعتابه ونهيه عن معاودة مسائل كان قد اجتهد فيها مثل استغفاره لعبد الله بن أبي بن سلول. وهذه مسائل يمكن الرجوع فيها إلى كتب دراسة القرآن وإعجازه إلا أنه يمكننا القول - في هذا السياق - إن بعضاً من المستشرقين لم يملك إزاء هذه الشواهد الدالة على أن هذا القرآن لا يمكن أن يكون من وضع الرسول - صلى الله عليه وسلم - نفسه إلا التصديق بمعجزته الربانية ومصدره الإلهي. |
ـ ولقد بنى أركون على هذه المقدمة المتهافتة نتيجة هي أشد تهافتاً من سابقتها وهي أن قضية الإِعجاز القرآني قد فرضت على المسلمين
(13)
دون حول منهم ولا قوة. |
ـ لقد نزل القرآن أول ما نزل في بيئة لم تكن تتعاطف مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - بل إنها تحاربه وتناصبه العداء وهي على الرغم من امتلاكها لناصية البيان العربي الذي لا يفقهه أركون بعد أن استعجم لسانه وقلبه - معاً - هي على الرغم من كل الحيثيات السابقة كانت تذهب إلى فناء الكعبة لتسترق السمع إلى نبي الهدى وهو يرتل القرآن فلا تلبث أن تستمرئ ذلك السماع وتعاوده مرات ومرات ولم يقل واحد منهم - عندئذٍ - وهم في موقف المقاومة للرسول - صلى الله عليه وسلم - ودعوته؛ إن ذلك التأثير الغريب الذي تسلل إلى نفوسهم وتركها حيرى كان مفروضاً عليهم. وكيف يفرض الضعيف على القوي والخائف على الآمن والفرد على الأمة الكثيرة العدد والعدة ؟ بل لقد ظل موضوع هذا التأثير القرآني المرتبط بإعجازه على كل من ألقى عليه السمع ولو كان هذا السمع عابراً ظل باباً من أبواب الدخول في هذا الدين، حتى عندما فقدت الدولة الإسلامية كيانها السياسي وسلطتها الرسمية. فقد حدثني أستاذنا الفاضل الدكتور مصطفى عبد الواحد أن عدداً كبيراً من الإِنجليز الذين دخلوا في الإِسلام كان صوت المقرئ المعروف الشيخ محمد رفعت - رحمه الله - في ترتيله للقرآن سبباً في هدايتهم إلى هذا الدين الباقي ما بقيت الأرض والسماء. فأي فرض هذا الذي يذهب إليه أركون؟ وأي دعوة باطلة تنقضها وقائع التاريخ في الماضي وشواهد حاضرنا القائم؟! |
ـ ولعلّ الغريب جداً في احتفاء بعض المؤسسات الغربية الثقافية منها والإِعلامية بهؤلاء الكتّاب هو عدم حيلولة توجهاتهم الماركسية دون إعطائهم ما يطمحون إليه من مناصب ويبحثون عنه من جوائز وتسهيل السبل أمام نشر مؤلفاتهم وترجمتها إلى لغات عدة. كما حصل بالنسبة إلى إنتاج الكاتب ((محمد شكري)) الذي ترجمت أعماله ((الخبز الحافي، الشطار، مجنون الورد، والخيمة)) إلى بعض اللغات العالمية مثل الإِيطالية والألمانية والكاطالاتية والأسبانية
(14)
مع أن هذه المؤسسات - نفسها - هي التي تضع العراقيل ولا تتورع عن مخالفة القوانين والأعراف في سبيل مقاومة الكتابات الصادرة عن كتاب ينتمون حقيقة للمجتمعات الغربية جنساً وثقافة والتي يتوقع من أصحابها التوجه الماركسي أو النزعة اليسارية كما حدث مع الكاتب المعروف آرثر ميلرر Arthur Miller
(15)
والممثل الكوميدي تشارلي شابلن الذي هوجم واتهم بميوله الشيوعية من قبل مما كان سبباً وراء نزوحه إلى سويسرا في عام 1952م حيث استقر حتى مماته في 25 ديسمبر 1977م
(16)
وهو الأمر نفسه الذي وقع مع الكاتب البريطاني المعروف كين ليفنقستون Livingstone
(17)
الذي أزيح من منصبه كرئيس لبلدية لندن سنة 1986م وكان اتجاهه اليساري سبباً رئيسياً وراء إزاحته من هذا المركز الهام. ولا يبتعد كثيراً موقف الإِعلام في بلاده من النموذج الماركسي الآخر وهو الكاتب ((طارق علي)) أحد أصدقاء سلمان رشدي والذي حاول الانضمام إلى حزب العمال البريطاني في بداية الثمانينيات الميلادية ولكن رئيس الحزب آنذاك والصحافي المعروف ((مايكل فووت)) رفض طلبه في الانضمام مبيناً له أن نزعته الماركسية غير مقبولة في المجتمع البريطاني مما يسبب خسارة للحزب وفقداناً لشعبيته بين الناس مع أن حزب العمال عرف بتبنيه للمنطلقات اليسارية في بعض طروحاته الاجتماعية والاقتصادية. |
ولعلّ في ضوء هذه الشواهد الأخيرة التي سقناها للتدليل على موقف المؤسسات الغربية من التوجهات الماركسية وهي التي تعكس صرامة ووضوح الموقف الغربي من هذه التوجهات المتحجرة والمتعفنة لَعَلَّه يحق لنا أن نتساءل: لماذا هذه المؤسسات نفسها والواعية بكل مواقفها وممارساتها تحيط بعض الكتّاب العرب الغارقين إلى حد رؤوسهم وأرجلهم في مستنقعات الفكر الماركسي والفارضين على أفكارهم سياجاً من الأيديولوجيات الشكلية والميتة - تحيطهم بهذه الهالة الإِعلامية التي لا يتورعون في غمرة الانبهار بها عن أن ينالوا من الدين والثقافة التي ينتمون إليها - بأسمائهم فقط - في زمن استعادت فيه أوروبا شرقها وغربها ثقتها بالدين وأكدت على احترامها للمقدسات والشعائر والعبادات؟ |
* * * |
|