شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
محمد عابد الجابري بين البرهان والهذيان
ـ لم يكن محمد عابد الجابري كوكباً لامعاً في سماء الفكر الإِسلامي والعربي الأصيل حتى يهوي كما نعتته المقالات المتتابعة التي نشرها الدكتور تركي الحمد في صحيفة ((الشرق الأوسط)) منكراً عليه موقفه من أزمة الخليج والمتمثل في إقراره لذلك الغزو الأحمق والاغتصاب الباطل. ولم يكن قط قومياً ينزع به حماس إلى السير في ركاب الغوغائية والانضواء تحت شعاراتها البرّاقة كما حاول أن يصنفه - ذات مرة - الدكتور حسن الهويمل الذي طالب في مقاله الأسبوعي بصحيفة ((البلاد)) 23 محرم 1412هـ، بإبداء الأدلة التي نكون بها قادرين على تحديد المسار الفكري حداثياً كان أو يسارياً أو ماركسياً لكاتب أو مفكر بعينه. وكانت دعوته تلك مرتبطة بالإعجاب الذي أبداه بالدكتور جابر عصفور ((لموضوعيته ومعقوليته واقتداره وسيطرته على الفكرة التي يعالجها وبعده عن الادعاء)) وأخيراً هو في الصفوة - في نظر الدكتور الهويمل - لأنه من أبرز كتّاب مجلتي ((فصول)) و ((إبداع)) .
ولا شك في أن مطلب الدكتور الهويمل - بعيداً عن بواعث الإِعجاب الذي أظهره تجاه (عصفور) وثنائه على دوريات أدبية لا تخفي حقيقة توجهها على القارئ العربي - هذا المطلب له أهميته في تحديد مسار الفكر العربي والوقوف على توجهات الكتّاب العرب الذين يشاركون في بناء ثقافة الأمة وتوجيه دفتها الحضارية. ولكن ما رأي الدكتور الهويمل في أن بعضاً من المثقفين العرب يجاهرون - دون أن يطالبهم أحد أو تضطرهم المواقف لإِبراز هويَّاتهم الثقافية أو الدفاع عنها - بماركسيتهم ويساريتهم، ولم تنته تلك المجاهرة حتى بعد أن تبرأ من الشيوعية والاشتراكية منظروها وروّادها الحقيقيون من مفكري الغرب ومثقفيه. ولعلّ دكتورنا الكريم لم يفت ذلك الحماس المستميت الذي يبديه غالي شكري، ومحمود أمين العالم، وعبد العظيم أنس وغيرهم في الدفاع عن الماركسية وكأنهم نشأوا في الساحة الحمراء التي تخلصت أخيراً من كل رموز ذلك الماضي المتعفن إلا بقايا من تماثيل لينين وستالين يلعب بها الصبيان ويتلهون بها في أوقات فراغهم. وإني لطارح أيضاً سؤالاً في هذا السياق على الدكتور الهويمل وهو: هل نجد فيما يكتبه هؤلاء ومن بينهم الدكتور جابر عصفور ((الحداثة أمس واليوم وغداً)) ((لمارشال بيرمان)) ((Marshall Berman)) [إبداع - العدد الرابع - 1991م، ص 27 - 42] هل نجد في ما يكتبونه الروح الحقيقة للفكر الإِسلامي والتي هي - بلا شك - حد فاصل يمكننا من خلاله تحديد هوياتهم التي ينطلقون منها وتوجهاتهم الفكرية التي يسعون لتثبيتها ونشرها في مجتمعاتنا الإسلامية والعربية؟ وإذا كان الجواب بالنفي وهو الشيء الذي أميل إليه فليعذر الدكتور الهويمل كل لغط يدور حول هذه الشخصيات وكل نقد يحاول كشف ما تنطوي عليه كتاباتهم من مضمون فكري لا يخدم تاريخ هذه الأمة ومنطلقاتها الحضارية وتراثها الفكري الذي يجب أن يصان من كل عبث، وتدفع عن ساحته كل تلك المحاولات التي تريد تفسيره وفق الأهواء الباطلة، وهذا حق مشروع لكل أمة ويمكن أن يقام عليه الدليل من خلال تلك العاطفة المتقدة والحماس المتأجج لدى مفكري ومبدعي الأمتين المسيحية واليهودية والذي يصل بهم إلى الدفاع عن تلك الأساطير التي تحفل بها كتبهم الدينية التي امتد إليها العبث وأصابتها عوامل التحريف. وهل نحن بحاجة إلى أن نذكر بالرؤى المسيحية الواضحة والمتجسدة في الأعمال الأدبية المشهورة ل ((تاسو)) و ((دانتي)) و ((ملتون))؟ وهل من الضروري أن نسوق دليلاً على المرجعية الدينية اليهودية في أعمال الروائي ((فرانز كافكا)) التي كتب بعضها باللغة اليهودية القديمة ((اليديشية)) ؟ كما يظل السؤال مطروحاً حول ((ت. س. إليوت)) المبدع الأمريكي الأصل والإنجليزي الإقامة والثقافة والذي يعجب به روّاد الحداثة في عالمنا العربي. فهل فقهنا أن الكاثوليكية المتعصبة كانت خلف معظم أعماله ويشمل ذلك قصيدته المشهورة ((الأرض اليباب)) ؟
وأعود للجابري الذي بدأت مقالتي بالحديث عنه لأذكر الذين انحصر نقدهم له في موقفه من أزمة الخليج بأن ذلك الموقف لا يمكن فصله بأي حال من الأحوال عن مجمل توجهاته الفكرية. وإذا كان هناك نقد يسعى للفصل بين ما كتبه الجابري في منظومته ((نقد العقل العربي)) وبين ما اتخذه من موقف مؤيد للغزو العراقي للبلد العربي الكويت فهو نقد لا يمكن أن يصل بنا إلى الحقيقة عن هذا الكاتب الذي ينظر إلى التراث العربي بعينين غربيتين وغريبتين - في الوقت نفسه - ويحاول أن يشوه وجهه النقي بتلك المناهج المنبثقة عن الفكر الماركسي التي استخدمها في دراساته مثل ((البنيوية)) وغيرها. وهو كثيراً ما يوظف في دراساته، وكان آخرها (العقل السياسي العربي محدداته وتجلياته)، يوظف جملة مفاهيم توظيفاً إجرائياً ومن حقول معرفية مختلفة ومتباينة، كعلم النفس، وعلم الاجتماع، وفلسفة اللغة. ومعلوم أن عملية توظيف المفاهيم في الأبحاث الأكاديمية كانت وما زالت تطرح مشاكل علمية تتصل بمصدر هذه المفاهيم وخلفياتها الفلسفية والأيديولوجية، ولم تكن كتابات الجابري عن أزمة الخليج لتخرج عن نسق تلك الرؤية الضيقة والسقيمة التي طبعت كتابات اليسار العرب عموماً، وهو ما نجد شواهده عند ((عبد العزيز المقالح)) و ((عبد الوهاب البياتي)) و ((محمد برادة)) و ((كمال أبو ديب)) و ((جورج طرابيشي)) وغيرهم.
وإذا كان الجابري يدعونا علانية في كل كتاب يصدره كما فعل في ((العقل السياسي العربي)) وفي آخر مؤلفاته ((التراث والحداثة)) إلى الانتظام الواعي في فكر ابن خلدون، وابن رشد، وابن حزم، والشاطبي وبالتأكيد على مفاهيم البرهان والمدرسة البرهانية، وضرورة الالتزام عند قراءة التراث أو الرجوع إليه بهذه المفاهيم القادرة على بعث الوعي في الأمة والانطلاق بها في المسار الحضاري الكبير، فإنه نفسه أول من خذل هذا البرهان وتنحى عن الأخذ بأحكامه وهو ما يفقده مصداقيته فيما يدعو إليه ويضيف بعداً آخر لضرورة مراجعة ما يقوله ويكتبه.
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :548  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 248 من 482
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

سعادة الدكتور واسيني الأعرج

الروائي الجزائري الفرنسي المعروف الذي يعمل حالياً أستاذ كرسي في جامعة الجزائر المركزية وجامعة السوربون في باريس، له 21 رواية، قادماً خصيصاً من باريس للاثنينية.