المفهوم الحضاري لقضية الأصالة والمعاصرة |
ـ يكون للكلمة المقدّرة الفعّالة على كسب أرضية صلبة، وللحوار التأثير الطبيعي والتوجيه الرائد، عندما يقترنان بالتأمل الواعي والمناقشة المقنعة، وميدان هذا التأمل وتلك المناقشة هو ما يسمى في ميدان الفكر ((بالتراث والتجديد)) ، أو لعلّه أخذ اسماً آخر هو ((الأصالة والمعاصرة)) . |
ولعلّ التأمل يقودنا لنرى أن ميدان هذه القضية واسع، حتى ليشمل نواحي عدة، يصعب فصل بعضها عن بعض. وهذه النواحي يتصل بعضها بأمورنا الحياتية التي لا نوليها - في كثير من الأحيان - ما تستحقه من نظر وتمعّن، ومنها ما هو فكري نراه، في هذا الحوار اللامنتهي، بين ما يسمى بالقديم والجديد، في ميدان العلوم، الإِنسانية، بمختلف فنونها. |
والفصل في هذه النواحي لا يمكن أن تُوَفِّره مقالة كهذه، وإن كان لهذه المقالة من هدف فهو مناوشة بدائية للقضية، نتمكن - بعدها - من توسيع دائرة نقاش هادف يوصل الأسس، ويرسم الأهداف، لأن أهمية هذا النقاش تنبثق من أن الأمة الإِسلامية والعربية تسعى - في انطلاقتها الحاضرة - لتثبيت معالمها الأساسية التي لا تقبل مساومة أو تخاذلاً، كما تتطلع - في الوقت نفسه - إلى إغناء هذه المعالم بالتجارب العلمية الرائدة التي سبقتها فيها أمم أخرى. |
وهذا السبق أمر طبيعي، يدركه كل من قرن جهده بالعزم والإخلاص على تحصيله، ويتوافر عليه كل من استخدم القدرات العقلية الكامنة في نفسه، في سبر أغوار هذه العوالم الطبيعية الممتدة، والتي أحكمت صنعها القدرة الربَّانية الخالقة، وقلدت هذا الإِنسان - في حدود قدرته - أمانة البحث عنها، والاستفادة منها، في آن واحد. |
ـ في الرجوع إلى ماضي حضارتنا الإِسلامية نجد دليلاً واضحاً، وأثراً ملموساً، في أن الدعوة العالمية الإِسلامية فتحت آفاقاً رحبة أمام أولئك الروّاد الأوائل، فكان لقاؤنا بالشعوب الإِسلامية الأخرى هو لقاء - في الوقت نفسه - بالحضارات الأخرى. |
واستطاعت القاعدة الإِسلامية السمحة - المقترنة بوعي وانطلاقة روادها - استخلاص ما هو قوي في ذاته ومتلائم - في الوقت نفسه - مع هذه القاعدة الراسخة، فكانت التجربة التي أضافت عنصر القوة، ونأت عن عنصر الضعف والغرابة، ولم نشعر - ونحن نقرأ إبداعات رائدي الحضارة الإِسلامية - في تلك الفترة، إلا أنهم جميعاً يمثلون قاعدة واحدة متكاملة، نسقها ذلك العطاء المتجدد في دين الإسلام المجيد. |
الخطأ، كل الخطأ، في أن يتسلل إلينا التفكير القائل بأن انطلاقة الإِسلام كانت مرحلة واحدة قطعناها في تاريخ متعدد المراحل، حتى إذا أتينا لدراسة متعمقة، واعية نجد أن الإِسلام كان الانطلاقة الحقيقية لإِبداعات الأمة العربية، ومشاركتها في البناء الحضاري المتكامل. |
ولقاؤنا - في الوقت نفسه - بشعوب أخرى كان الإِسلام إنقاذاً لها مما تردت فيه، وصهراً لقدراتها في البوتقة الإِسلامية، فضمن القاعدة الإِسلامية كان اللقاء التاريخي، وفي رحابها الشاملة السمحة، تهيأت الظروف لتلك القدرات جميعاً، في أن تتمكن من المشاركة والإِبداع. |
تلك المشاركة وذلك الإِبداع هو ما نرى آثاره في حضارتنا الإِسلامية، في ((الأندلس)) التي كانت مركزاً حضارياً، تمكّنت الأمة ((العربية)) من خلال إشعاعاته، من إعادة بنائها الحضاري، وإن الدرس الذي يجب أن نعيه - إن لم نكن وعيناه بعد - أن حضارتنا الإِسلامية توقفت عن العطاء، في ذلك المركز الحضاري، بسبب ما تولد من عصبيات، ووئد وهجها المتوقد تحت تأثير الأهواء الذاتية التي نهت عن الانحدار فيها تعاليم الدين القويم. |
ـ إن المشاركة في البناء الحضاري المعاصر - علمياً وفكرياً - لن تكون بنبذ تعاليم الإِسلام، أو التقليل من الدور الذي أداه تراثه الفعّال في تكوين الأمة التي مكّنت لنا الوقوف - بعزة وكرامة - بين أمم الأرض، وسيظل التراث المورد الأصيل الذي نعود إليه كلما تعددت بنا السبل، وتفرقت بنا المناهج التي رفضتها، وسوف ترفضها طبيعة تكويننا التاريخي. |
كما أن المشاركة الحضارية تتطلب مع هذه القاعدة الراسخة انفتاحاً، لا يفقد الأصالة، وأخذاً لا يتعارض مع التشريع، وتفهماً لشعوب الأمم الأخرى، فالانغلاق الفكري يؤدي - في الوقت نفسه - بالأمة إلى الانكماش، وفقدان الدور الذي يجب أن تؤديه. |
ـ إن الانغلاق والتعصب لم ولن يكونا معولي بناء في تاريخ الأمة التي فتحت ذراعيها في يوم من الأيام لشعوب الأرض، ويجب أن تظل كذلك، وهذا أسمى ما تتطلع إليه أمة تردد في ثنايا كتابها المجيد قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (الحجرات: 13) |
* * * |
|