(( كلمة الأستاذ محمد مشهور الحداد ))
|
ثم أعطيت الكلمة للأستاذ محمد مشهور الحداد ليقدم رؤيا في شعر شاعرنا الأستاذ علي أبي العلا: |
- بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم. أيها الحفل الكريم: |
تمر الصبا صفحاً بساكن ذا الغَضَا |
ويصدع قلبي أن يهب هبوبها
(1)
|
إذا هبت الريح الشمال فإنما |
جواي بما تهدي إليَّ جنوبها |
قريبة عهد بالحبيب وإنما |
هوى كـل نفـس حيـث كـان حبيبهـا |
|
|
- كذلك كان يتغنى الشاعر العربي في القرن الأول للهجرة، فيملأ القلوب شوقاً وحباً وحنيناً، وعلى هذا تغنى الشعراء الذين أعربوا عن مشاعرهم نحو أوطانهم بصفوهم، ومشاعرهم نحو من كان له السبق في الاستفادة منهم، عرفوا بهم وبمجالسهم، بصفوهم وببرهم، بعلمهم وبفكرهم، فكانوا خير خلف لخير سلف، علمونا كيف يفكرون، وكيف يلقون الكلمة الشاعرة تنبض بالوفاء، تبعد عن الجرح تحاشياً من أن تخلق جرحاً، تحكي لنا البر والتقدير في صياغة تتجاذبها المشاعر الصافية، وتسوقها الأفكار النبيلة، يقول المحتفى به في ليلتنا هذه: |
إن قلت هم آباء دلَّك عطفهم |
أو إخوة هم من دم الأجدادِ |
كان التآخي والتعاطف دأبهم |
يلقاك كل للمودة صادي |
|
- ومن نزوع النفس إلى الأحبة وظمئها إلى المنهل الذي كان يشربون منه يقول في قصيدته همسة بين البحر والشاطئ: |
ذكريات الأمس مرآة تُري النفس صباها
(2)
|
من رُؤَاهَا يرقص القلب وما أبهى رؤاها |
إنها الأيام قد راقت وقد طاب صفاها |
فرصٌ حلت وولَّت ليته دام بقاها |
|
|
- أيها الحفل الكريم.. كم أنا سعيد بالمشاركة في الاحتفاء بضيف هذه الاثنينية.. في ليلة من ليالي التكريم للرجال من رجال التكريم، فالأستاذ أبو العلا المُكرَّم، والأستاذ عبد المقصود خوجه المكَّرِم، علمان مواطنان من أبناء مكة الخير، هذا يكرم كشاعر وكاتب اجتماعي ورجل دولة بالأمس، وهو اليوم رجل من رجال الأمة الذين يشار إليهم، والآخر مكرم بطبعه وقد كرم الكثير ممن استحقوا التكريم، فأطل بنا على قمم من رجال الفكر علماً وأدباً، وثقافةً من الداخل والخارج، مما جعلنا نطالبه كما طولب من ذي قبل أن يكمل ببذله وعطائه. لنقرأ هذه الليالي صفحات مسطورة في كتب منشورة نستفيد منها، ونفيد بها، ونضيفها موسوعات منوعة إلى مكتباتنا التي تفتقر إلى كثير من تراجم الرجال المعاصرين ليعرفها من بعدنا الأبناء الذين حرموا من شهود التكريم. ويسعدني أيضاً أن أتناول معكم شيئاً من حياة المكرَّم في ليلتنا هذه، وكلكم يعرفه رجل دولة وربما عرفه الكثير كشاعر، وهو فعلاً شاعر سعودي أصيل، اتخذ الشعر ذوقاً وروايةً وتربة، وهو بعد لم يشب. |
- وكان شعوره بشعره للناس أكثر منه لنفسه، شاعر نجده في أسلوبه ممن يؤمنون بروعة اللفظ مع حبه للسهولة والوضوح، حتى لتجد شعره على اختلاف دروب صوره وأغراضه، صوراً مشرقة للمناسبات التي قال فيها شعراً. شاعر تحسه وهو يلقيه قريب الفكر، بعيد التصوير، تنحدر ألفاظ شعره من عواطف شريفة هي عواطف الإِنصاف والوفاء، وتلك هي سمات شخصيته، شاعر قرَّب الشعر في أكثر أغراضه، تغزَّل في غير إطراء، عتب في غير قسوة، رثى في غير ضعف، ثم هو بعد كل هذا وذاك التزم التزاماً بعامود الشعر القديم. حباً في الأصالة، ومال في كل قصائده إلى المقاطع، ووحدة المعنى، والتساهل في الألفاظ والتراكيب، تاركاً التكلف جارياً على السجية، مما يجعلنا نقول أن كل شعره مطبوع لا مصنوع، والمعروف أن المطبوع هو الذي يجري فيه الشاعر على السجية، والمصنوع هو الذي يتكلف فيه الشاعر شيئاً كثيراً أو قليلاً، ومن التفنن في إيراد المعاني والألفاظ، ومن القصد إلى استجماع التشابه والاستعارات. وبهذا فإن النقاد المحدثين يقررون أن الشعر نبع الطبع يعبر عنه بالأصالة في الفن ويعنون بذلك أن يكون المعنى مستمداً من إحساس الشاعر به وامتزاجه بنفسه من جهة، ثم تعبيره عنه تعبيراً مختلفاً عن أساليب غيره من جهة أخرى. |
- ولعلني أقول صواباً إذا قلت أن أثر العاطفة والخيال في شعره صارخة، مما يجعلنا نعتبره كغيره من شعرائنا المعاصرين، وهي ميزة أصبح من الضروري في دراسة الأدب أن يتتبع الدارس أثر العاطفة في القطعة الأدبية فيتبين صدقها وحرارتها، أو زيفها وبرودها، فالعاطفة لا شك هي من الدوافع النفسية في إنتاج الأدب الشعري، والعاطفة هي مجموعة من الانفعالات ارتبطت بشخص أو بشيء، أو بمعنى. فالأديب الشاعر قد يصف لنا عواطف وانفعالات مختلفة شعر بها في أعماق نفسه، أو يخلع عواطف على أشخاص خياليين في قصة يؤلفها، فلا بد لنا من دراسة هذه العواطف لبيان قيمتها، ومعرفة مدى صدقها وشمولها ونوعها هل هي إنسانية؟ أو قومية أو إقليمية أو شخصية؟ ثم هل هي عميقة أو سطحية؟ وهل هي ثائرة أو هادئة؟ إلى غير ذلك. إذ أن العاطفة هي النافذة أو المصفاة التي تمر فيها الأفكار فتحيلها إلى مادة صالحة للاستمتاع الفني، واسمحوا لي حماة الفكر، رعاة الأدب أن أجتز شيئاً يسيراً من شعر المحتفى به، نتخذه مثالاً تطبيقياً للدراسة. |
- يقول الشاعر في قصيدته "بين الأمس واليوم": |
آليت أكتم أَنَّتِي بفؤادي |
ولظلم غيري لا أكون البادي |
فلقد خبرت الناس في أوضاعهم |
وبذلت لكن قد جنيت تعادي |
ولقيت من كيد الحسود وظلمه |
فمشيت لكن فوق شوك قتادِ |
|
|
- لك الله أيها الشاعر، وماذا عسانا أن نقول؟ وقد أقسمت ألاَّ تكون بادياً بالظلم؟ ماذا نقول لك أكثر مما قاله الأول: |
لن يدرك المجد أقوام وإن كرموا |
حتى يذلوا وإن عزوا لأقوام |
ويُشْتَموا فترى الألوان كاسفة |
لا ذُل عجز ولكن ذُل أحلام |
|
- ويقول أبو الطيب المتنبي: |
والظلـم مـن شيـم النفوس فـإن تجـد |
ذا عفة فَلِعِلَّةٍ لا يظلمُ |
|
|
- والظاهر أن شاعرنا بحكم خبرته العملية قد تحاشى الظلم، وبذل الكثير. ورغم كل ذلك فقد جنى التعادي، ومشى في الطريق، ولكن فوق شوك قتاد. |
فلقد خبرت الناس في أوضاعهم |
وبذلت لكن قد جنيت تعادي |
ولقيت من كيد الحسود وظلمه |
فمشيت لكن فوق شوك قتادِ |
|
|
- وينتهي الشعر ونحسبه إن شاء الله لا ظالماً ولا مظلوماً، ينتهي بنا ليقفل صفحة من صفحات الخبرة بالحياة، ليعرفنا أن الناس في دنيانا أشكال وأصناف، فلنستمع إليه وهو يقول: |
عاشرت أقواماً سعدت بودهم |
زمناً وفزت بصحبة الأمجادِ |
وبقيت عمري لا أزال أحبهم |
وبهم ومنهم كم لقيت أََيادي |
وإذا مضى منهم لرحمة ربه |
فردٌ خلوت لحرقتي وسهادي |
من بعدهم أنا كالغريق بوحدتي |
دأبي الوفاء لموطني وودادي |
ولمن له فضل عليَّ وكان لي |
عوناً بلغت بما يُنيل مرادي |
|
|
- أرأيتم كيف كان يصارع الصنف الأول، وكيف عاشر الآخرين الذين سعد بودهم، ثم يعود مرة أخرى فرداً يلتمس الخلوة بعد أن تركه الذاهبون إلى رحمة ربهم، كالغريق بوحدته، فيستأنف مسيرة الوفاء والوداد لمن؟ لمن يلقاهم من جديد في الحياة، ولمن له فضل عليه ورحم الله دعبل الخزاعي؛ فقد لقي كما قال في شعره ما لقيه شاعرنا، لكنه كان أكثر قسوة وقد سئل يوماً ما الوحشة عندك؟ فقال: النظر إلى الناس، ثم أنشد: |
ما أكثرَ الناسَ لا بل ما أقلَّهُم! |
الله يعلم أني لم أقل فَنَدا |
إني لأفتح عيني حين أفتحها |
على كثير ولكن لا أرى أحداً |
|
|
- ونمضي مع شاعرنا المحتفى به وهو يستعيد الذكريات من مطاوي الماضي والماضي يعز على كثير من الرجال، فهو عزيز في رجاله، ويعز كثيراً عند أصحاب القيم، والشيم، والمثل فيقول: |
أشتاق أيام الخوالي بينهم |
إذ كان في صفوي بها إسعادي |
وأسائل الزهر الكواكب علها |
تروي لنا عن سامر أو نادي |
في الصيف إذ كانت ليالي أنسهم |
في نخبة من أكرم الأجواد |
يشدون بالغزل البريء قصائداً |
أو يطربون لعازف أو شادي |
تلك المجالس أين مني ظلها |
في فجر أيامي وفي أعيادي |
منها اقتبست سنا الثقافة والحجا |
وعرفت درب معيشتي ورشادي |
في مكة، في الطائف المأنوس، في |
عرفات أو عند الغدير الغادي |
أو في الجموم إذ الرياض كثيرة |
تحت النخيل وفي فجاج الوادي |
في الزاهر المعشاب، في جنباته |
أو في ربى الخرَّار أو أجياد |
|
|
- وشاعرنا في ذكرياته أكثر وفاء من الشاعر إيليا أبي ماضي، عندما يشعرنا بذكرياته فيقول: |
تلك الليالي لا أرجو تذكرها |
خوف العناء ولا أخشى تناسيها |
|
|
- ولكنني أخاله إما أن تكون ذكريات لياليه لا تستحق التأييد، أو هي ليالي يستحي من ذكر أهلها فلا يخشى أن يتناساها.. وشاعرنا أقرب وفاءاً وحفاظاً على الماضي وذكرياته من شاعر آخر عرفناه جميعاً يقول شعراً مـن منطلق العقل، شعوراً قبل العاطفة إنه الشاعر الكبير إبراهيم ناجي إذ يقول: |
ما دمت في صحبي ودام وفاؤهم |
فأنا الغني الحق لا المتحول |
أنا لست أعدل بالمناجم واحداً |
وأبيع من عقلوا بما لا يعقل |
|
|
- ولنمضِ سبحة واحدة مع شاعرنا المحتفى به في قصيدة له بعنوان "همسة بين البحر والشاطئ" وهو يعني بالبحر كما أتصور بحر الحياة، أو أن الحياة بحر، والشاطئ أمانها، والحياة كما يقول الكاتب الكبير مصطفى أمين قصيدة لها، مطلع ومقطع وبيت قصيد، وقد يسوء المطلع أو يحسن، والحياة قصيدة جميلة وقبيحة، وقوية وضعيفة، وواضحة وغامضة، وسهلة وعسيرة. وحياة الناس نوتة موسيقية لا تحسن في السمع إلاَّ إذا انسجمت وقلما تنسجم، ولا تلذ سامعها إلاَّ إذا خلت من النشاز، وقل أن تخلو ولا تصلح في الدوم إلاَّ إذا شدت أوتارها على أساس واحد، ووقعت نفحاتها في تجانس واحد، وقلَّ أن يكون ذلك. ولعل إيليا أبو ماضي يلخصها فيقول: |
إن الحياة قصيدة أعمارنا |
أبياتها والموت فيها القافية |
|
|
- فماذا يقول شاعرنا: |
في ليالي البحر يسري |
زورقي والموج ثائر |
أنا والمجداف والدفة |
كل تاه حائر |
ليس إلاَّ النجم يرعى |
في ظلام البحر زورق |
وعلى البعد بصيصٌ |
عكسه في الماء يغرق |
أيها الشط تدانى |
رحلتي نحوك صعبة |
في مراسيك سألقى |
راحتي من بعد كربه |
الأماني طوحت بي |
بين أحلامي ووجدي |
والرؤى طافت أمامي |
أين من يحفظ عهدي؟ |
كم تمنيت وكانت |
كسراب لاح يبهر |
وتراءت لعيوني |
فرحة تخبو وتظهر |
كم صديق كان نحوي |
باسم الطلعة صادي |
وهو في أثواب ذئب |
بينما الإِخلاص بادي |
حرت في أمري وإني |
بين خسران ومكسب |
هذه الدنيا فخذها |
بالرضا إن شئت تكسب |
أنا في الكون خيال |
لا تسل كيف ابتدا |
ومُنَى أمسي ويومي |
سوف يطويها الردى |
أنا في الأرض أسير |
وعلى الغيم أطير |
يركض المرء ويشقى |
هل درى أين المصير؟ |
أرتجي حظاً وجاهاً |
يا لنفسي ما دهاها؟ |
ليس في الدنيا أمان |
خذ من الدنيا صفاها |
|
|
- أرأيتم مطالع هذه المقاطع وهي تكشف عن أحكامها، وتداخل نسجها وإذا كان البيت من القصيد أو المقطع يفيد معنى بذاته، فليس هذا بعيب فالنثر أيضاً تستقل فيه الجملة المفيدة بمعنى تدل عليه، لكن ذلك لا يفقدها صلتها لما قبلها وبعدها. |
- وهكذا نجد شاعرنا قد اعتنى بحسن التخلص وهو الانتقال من المطلع إلى الغرض الأصيل، وهذا إحساس منه كشاعر بضرورة الترابط بين أجزاء مقاطع القصيدة، وإذا كانت القصيدة كما قلنا بدءاً تمثل، أو هي كما صاغها شاعرنا الحياة والإِنسان، والحياة فلاة كما أرادها الشاعر المبدع أحمد رامي في قوله: |
إن الحياة فلاة أنت قاطعها |
وكل مرحلة يوم تقضيه |
إن الحياة بنعماها وأَبْؤُسِها |
بطل وكذب الأماني كل ترفيه |
|
|
- غير أن الحياة عند شاعرنا رحلة صعبة في بحر موجه ثائر، والأماني فيه تتقاذفها الأمواج، والأحلام تتلاشى، والرؤى ترتد تستذكره الناس فتنطقه منادياً متسائلاً: |
- أين من يحفظ عهدي؟ الحياة عند شاعرنا هي غير الحياة عند شاعر المهجر إيليا أبي ماضي في قوله: |
وأراد عقلي أن يقود سفينتي |
للشط في بحر الحياة الطامي |
فطويت أعلام الهوى وهجرتها |
ونسيت حتى أنها أعلامي |
وحسبت أعلامي انتهت لما انتهى |
فإذا النهاية أعظم الآلام |
|
|
- الحياة عند شاعرنا سير من غير توقف؛ ورغم استمرارية السير فإنه أسير الحياة، يركض فيشقى، يرتجي حظاً وجاهاً، ويأسى للنفس ليسأل ما دهاها؟ |
ليس في الدنيا أمان |
خذ من الدنيا صفاها |
|
- والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. |
|
|