شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
هذا الازدراء إلى أين؟
تميّزت العصور الماضية التي شهد فيها الفكر العربي والثقافة الإِسلامية انطلاقتهما الحضارية بسمات علمية متميزة كانت - بلا شك - دافعاً إيجابياً وراء ذلك العطاء الإِنساني الذي شاركت به أمتنا في مجالات متعددة، شملت العلوم الطبيعية، والفلسفة، والأدب، والفنون.
وعلى الرغم من العداء الذي يناصب به الغرب هذه الأمة في تاريخها وتراثها - فإن هذا العداء لم يمنعه من أن يدوّن ثمرات العلوم الإِسلامية تدويناً يشوبه التشويه والخلط - أحياناً - ثم نجده في مواضع أخرى يذعن إلى الحق، فلا يعترف فقط بما خلَّفه علماء المسلمين من إبداعات وإضافات، بل يذكر تلك الروح العلمية السامية التي ميّزت المسلمين عن غيرهم من الأمم الأخرى في القرون الوسطى.
فهذا المستشرق J.B. Trend ((ج. ب. تريند)) (1) يذكر في بحث كتبه عن ((تأثير الإِسلام في التاريخ السياسي والاقتصادي لأسبانيا والبرتغال، أن جوار المسلمين للأمة الأسبانية: ((كانت له فائدة واحدة - على الأقل - وهي أنه أوجد عند الأقليات القليلة الحظ من الثقافة روحاً من التسامح ندر وجودها في القرون الوسطى)).
ثم يضيف قائلاً: ((حينما مات الإِسلام في الأندلس كان في موته تسميم لأسبانيا)) .
ـ فالمسلمون عرفوا التسامح فيما بينهم، وثمَّة فِرَق دينية تتناظر، ومدارس فكرية تتنوع اتجاهاتها ورؤيتها العلمية، في مجالات البحث، التي انصبت عليها اهتمامات هذه المدارس، من علوم دينية استقت أصولها من كتاب الله الكريم، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وعلوم نحوية وصرفية وبلاغية تأسست لخدمة اللغة العربية التي نزل بها كلام الله المعجز، وتكلم بها أفصح العرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم.
لقد خلّفت لنا كتب التاريخ والأدب صوراً من تلك المناظرات العلمية، التي كانت إثراء للفكر المعرفي عند الفرد المسلم، والوصول به إلى مظان الحقيقة، ولم يكن المسلمون في تناظرهم هذا الذي يدل على ممارستهم لقيمة حرية الكلمة، وترسيخهم لمفهومها - لم يكونوا إلا مقتبسين لتلك الصفات السامية، التي توافرت في شخصية الرسول - صلى الله عليه وسلم - يعلِّم أصحابه في هدوء، ويتعاطى معهم القول، في رضا، ويشاورهم فيما صعب من الأمر، وكله تطلع في أن يقولوا قولاً حسناً يكون فيه الخير للأمة، التي وصفها بأنها خير الأمم.
ـ لكن المسلمين الذين تناظروا فيما بينهم لم يختصموا اختصام الجهلة، أو يتنابذوا تنابذ المنافقين، وتبادلوا الرأي مع غيرهم من أصحاب الديانات والمذاهب الأخرى، فلم يضطرهم تبادل الرأي أن يسبوا الآخرين في آلهتهم، أو كتبهم، أو أفكارهم، لأن كتاب الله حدد المنهج العلمي الذي منه ينطلقون، فجعل الكلمة الطيبة، والموعظة الحسنة، من سمات عباده المؤمنين.
أفليس من الغريب أن هذا الدين الذي حرر الفكر الإِنساني من قيود القهر والكبت والخوف، ولم يرتض لإِنسانية الفرد أن تذعن للظلم البشري، بل عليها أن تقاومه بكل الوسائل والسبل.
هذا الدين الذي نشأت حرية الكلمة في ظلاله، وارتوت من منابع علومه، لم يحم الإِسلام كلمته فقط، ولكن حمى كلمة أهل الملل الأخرى، فلم يصلهم منه أذى، فلقد جعل لهم الخيرة في أن يلتزموا بتعاليمهم الدينية، وتقاليدهم الدنيوية، أو أن يدخلوا الإِسلام طائعين غير مضطرين، فاستجاب بعضهم، واحتمى بعضهم بما بقي لهم من إرث حضاري، ولم يحرم هذا بعضهم من أن يتخذ مكانه الملائم في المجتمع المسلم، فعرف في الدول الإِسلامية - على مر العصور - وزراء وكتّاب وشعراء لم تكن هويتهم الدينية سبباً في أن تتخذ مجتمعاتهم منهم موقفاً سلبياً، بل نلاحظ أن الأمر أكثر من ذلك، فهم يحظون بمكانة رفيعة في فكر أمتهم وأدبها.
ـ إن موضع الغرابة أن نكون - نحن أبناء العروبة - أول من يصوّب الدين ومقدساته سهاماً طائشة من القول العابث، الذي يريد أن يخترق كيان الأمة، التي صمدت لكل نزق فكري رماه به أعداؤها من قبل، فارتد عليهم وبال أمره.
بل إن الغرابة تشتد، وعلامات الاستفهام تتوالى يوم نعلم أن تلك السهام النزقة قد احتضنتها مجلة علمية عرفت هيئة تحريرها بالوقار والحكمة، بل لا ننسى أنها تضم بين دفتيها بحوثاً أكاديمية بحتة كتبها نخبة من مثقفي الأمة العربية، ممن هم أحرص الناس على تراث الأمة وفكرها ولغتها، وأبعد ما يكونون عن شبهة التعدي والإِساءة!
ـ إن مجلة ((كلمات)) التي تتوافر بين طلاب العلم والمعرفة، في هذا البلد وغيره، في هذا الوقت، والتي تصدر عن أسرة الأدباء والكتّاب في بلد عربي شقيق، أصدرت عددها الثامن، وقد تشوهت قيمته العلمية ببعض القصائد التي أدرجت تحت ((باب شعر)) اشتملت بعض مقاطعها على إساءة للإِسلام كإقحام بعض الكلمات الدالة على المشاعر والمقدسات الإِسلامية، بأسلوب يدل على ذلك الفراغ الديني والفكري الذي تعيش ظلمته نفوس كتّابها.
ولعلّ هذا الفراغ هو الذي دفع بالشاعر ((سيف الرجبي)) فيما أسماه بالقصيدة الرابعة من قصائده الست أن يقارن مقارنة ساقطة بين المكان الذي تتبوأه الشخصيات المريضة التي تدعي - عن طريق الخرافة الكاذبة - معرفة الغيب، وبين المكان الذي ارتبط منذ بداية الإِسلام بعبادة الله، وتزكية النفوس، من كل باطل وضلال.
يقول هذا الشاعر الذي يبدو أنه - على أحسن الفروض - غير قادر، ذهنياً، على فهم الحكمة من وراء تجمع المسلمين لصلاة الجمعة:
((هل أبحث عن نيران أخرى لحكمة الأجداد)).
((وأرحل إلى أسواق بيع المغيَّبين))؟
((أم أرجع إلى مسجد الوادي)).
((أحضر قربان الجمعة)) (2) .
لا أظنني بحاجة إلى القول: إن الشعراء والكتّاب الأوروبيين، وحتى الملحدين منهم يحتفظون - في نفوسهم - باحترام وتقدير لرموز دينهم المسيحي، ولا يجرؤون على تناول مقدساتهم بأسلوب ساخر كهذا، لا نستطيع الوصول إلى رأي ثابت في تفسيره، ولكنه يحق لنا أن نستنكره، ونناقش بواعثه.
أما قصيدة ((إيقاعات ل 86 للشاعر أحمد مدن)) فقد ورد في جزء من مقطعها الثامن ما هو أكثر نزقاً، وأشد افتراء، وأعظم بلية، ولكنه البلاء أصاب الأمة في فكر أبنائها، فاختاروا له من الأسماء أغربها. ومن الأشكال أضعفها.
((نشرد حزن الندى)).
((وتغدو أصابعنا في المدى)).
((كاشتعال المطر)).
((يدق النصاب)).
((ونقتسم البسملة)).
((وليس لنا غير أن)).
((نحشر (الله) والمقصلة)) (3)
- إن التراث الشعري الخالد، عند جميع أمم الأرض، لم تخلده أساليب الهرطقة، ولا عبارات التجرؤ والتطاول على العقائد المنزلة من عند الله، وما يتصل بها من إيمان أو عبادة، بل على العكس من ذلك - فلقد كان تطلع الإِنسان إلى خالق هذا الكون، والاستشراف إلى الآفاق الإِيمانية عاملاً من عوامل الإِبداع، التي تتعانق فيها التجربة الإِنسانية مع ذلك الفيض الروحي.
ولقد استطاعت هذه التجارب أن تحقق الخلود لنفسها وتستأثر بإعجاب أذواق النفوس البريئة من مرض الجحود والصغار. ويظل الشعر يُكتب في الرقاع، ويروى في المجامع، ويستشهد به العلماء على اختلاف منازعهم، وتباين اهتماماتهم، إلا أنّ ما بقي منه محفوراً في ذاكرة الزمن نزر محدود من الملاحم أو القصائد، التي ارتوت من منابع الخلود، ولم تتمرد على الفطرة، التي تجد في الدين حباً يغمر النفوس، وتطهيراً من أدران الحياة، ومنقذاً للإِنسان مما يتردى فيه من كوارث يقودها إليه تحايل في جلب المصلحة، وأثرة في حب السيطرة، ورغبة في الانتقام ممن يختلف معهم في اتجاه أو سلوك.
وهذا تيار الشعر الإِسلامي ما زالت أنغامه تترنم بروائع ((محمد إقبال)) و ((أحمد شوقي)) وما زال الأدب الغربي ينظر إلى تجربة John Milton ((جون ملتون)) في ملحمته المعروفة Paradise Lost ((الفردوس المفقود)) (4) أو إلى T.S. Eliot ((توماس ستيرنز إليوت)) في قصيدته المشهورة The Waeste Land ((الأرض اليباب)) (5) ينظر إليها نظرة مثالية يمتزج فيها الإِعجاب بالإِكبار ففيها من منظورهم الديني ما تتعلق به نفوسهم، وتسبح في عوالمه أرواحهم، إنهم يديرون وجوههم لتراثهم الديني، ويرونه المنقذ لكوارثهم على الرغم مما داخله من أباطيل، وتحكم في منطلقاته من أساطير، ويدير بعضنا ظهره لإِشراقة النور، وصفاء العقيدة، ورحابة الأفق العلمي، الذي انفردت به منطلقات ديننا الإِسلامي.
ـ ولا أريد الوقوف عند قصيدة ((سعدي يوسف)) التي لا تخلو مقاطعها من تضمين للرموز المسيحية، ((كالكنيسة والناقوس)) (6) ، وهو تضمين تشعر معه احتفاء الشاعر بهذه الرموز، وهذا أكبر رد على الشعراء الآخرين الذين كانت كلماتهم المفتقدة لنبض الشعر، وقوة الصورة، تحمل - أيضاً - نقيصة أخرى لاستهدافها لأثمن ما في حياة هذه الأمة، وهو الدين الإِسلامي.
قد أُتهم بأنني بنني متحمس في فكري لكنني سأقول لمن تبعثرت الكلمات بين يديه، وخرج من مجال الإِبداع إلى سيئة الابتداع، فذهب يهذي قائلاً:
((إنك حين تطرق باب المعنى يفتح لك)).
((في اختلاف الحروف قلق وشك)).
((بينما الناس يبصرون السماء أرى أن العرش)).
((وأهل العرش)) (7)
سأقول له:
لقد جفّت الحقيقة لديك أيها الشاعر، قبل أن يجف القلم، الذي ظننت أنك تسطر به شيئاً، ولم تدر أنك الذي لم تقل غير قول تنفر منه الأسماع، وتتأذى منه الجوارح!
وافتونا أيها العارفون من الناس في أمر كهذا فقد كثر الرديء من القول، الذي يعتقد أصحابه أن الأمم سوف تتسابق على تدوينه، ليكون في إبداعات الخالدين، وما علموا أن الأمم تزدري الذين يبدلون صورهم وأشكالهم، فكيف بالذين يتجرؤون بالقول على عقائدهم وتراثهم؟!
 
طباعة

تعليق

 القراءات :942  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 219 من 482
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

محمد سعيد عبد المقصود خوجه

[حياته وآثاره: 2007]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج