الجذور البعيدة للفكر الحداثي |
يحمد للزميل الكريم الدكتور محمد خضر عريف معالجته لقضية الحداثة في كتابه الموسوم ((الحداثة مناقشة هادئة لقضية ساخنة)) يحمد له تلك الموضوعية التي تناول بها هذا الموضوع الذي يجب أن يكون الحوار حوله هادئاً والمناقشة المتصلة بقضاياه بعيدة عن التشنج. وإن كان لا بد من الإِشارة إلى أن مشايعي هذه الموضة الفكرية التي تخفي وراءها كثيراً من الأيديولوجيات يحاولون أن يبرئوا مصطلح الحداثة Modernity مما يرتبط به أصلاً من أزمات وتناقضات. وهذا ما يشير إليه (هنري لوفيفر) بقوله: ((إن الحداثة لا تواصل مسيرتها بدون أزمات، إن التناقضات تعبث فيها من كل جانب وتعمل عملها الذي لو تحقق فسيحول الحياة)). كما يؤكد نفسه على تلك الأهداف التي تسعى لتحقيقها وهو خلخلة المألوف مما لا يستطيع معه مناصروها إقصاء هذا المعنى الذي يتجاوز بها كونها قضية تتصل بعملية التجديد الشكلي أو اللغوي إلى فضاءات أخرى أكثر أهمية وأعمق تجذراً، يقول ((لوفيفر)): ((فالحداثة بقدر ما توجد في حالة تعارض مع ما هو قديم بقدر ما تختزن في عملياتها احتمالات الأزمة، فتحريك القديم يشكل خلخلة للموجود وللمألوف)). |
((منطق الحداثة وتحديث التقليد، محمد نور الدين أفاية، الملحق الثقافي لصحيفة الاتحاد المغربية 29 يوليو 1990م)). |
ـ وهي بقدر تعارضها وتبرمها مما هو قديم وبالتالي من كل ما يدعو إلى التقليد والاهتداء بمبادئ التراث، وبالرغم من أنها تتضمن في عملياتها احتمالات الأزمة وأنها تعاند كل تعريف وكل إرادة لتحديدها وإعطائها تسمية معينة، فهي في الوقت نفسه تحيل إلى حضارة تعمل على إلغاء الآخر ونفي ثقافته، فهي بقدر ما تريد أن تفعل في الواقع وتغيره بقدر ما تنسج حولها من أساطير لدرجة يتداخل في ظاهرها ما هو واقعي وما هو أسطوري. |
ـ وهذا المفهوم الأخير الذي استنتجه منظّرون غربيون مدركون تمام الإِدراك للسياقات الحضارية والفكرية التي انبثق عنها هذا المصطلح يفسر لنا مواقف تلك النخبة التي تحملت طواعية عبء نشر هذه الأيديولوجية الفكرية في العالم العربي، فهم في الوقت الذي يدعون فيه إلى تعدد الآراء فإننا نجد مفهوم التعددية لديهم لا يتجاوز الانكفاء على النفس والانغلاق على الذات بل والأخطر من ذلك محاربة الآخر بطرق شاذة وغريبة كثيراً ما يحاولون إلصاقها بهذا الآخر الذي يسعون للقضاء عليه، ولقد حدثني صديق حميم عرف بتمكنه من اللغة الشعرية وقدرته الفائقة على التدليل على أن القصيدة العمودية لا يمكن أن يزاحمها ذلك الغثاء الذي تنضح به تلك التجارب الفجة في ما يسمى بعالم التجريب الشعري، حدثني أن أحد منظري الحداثة صارحه في جلسة صفاء أن التيار الحداثي عمل بكل الوسائل على مضايقته (أي هذا الشاعر العمودي المعروف في الساحة) سعياً منهم في القضاء على الأصوات الشعرية الأخرى التي لا تشاركهم الرأي وتفترق عنهم في التصور، وهذا أمر خطير يدلل على تلك النزعة القمعية التي تخفيها الحداثة تحت معطفها، ثم تدّعي - أمام الرأي العام - أنها القيّم الأعظم والمؤتمن الأوحد على تلك المفاهيم الحضارية الجذابة من مثل حرية الكلمة، وأخلاقيات الحوار وأدبياته، وأنها لا تعمل على نفي الآخر بقدر ما تسعى إلى مناقشته ومعرفة رأيه ولكن الادعاء شيء والتطبيق العملي شيء آخر، وهو مأزق آخر تعاني منه الحداثة وكثيراً ما أفقدها مصداقيتها حتى عند بعض أولئك الذين يميلون إلى بعض طروحاتها الفكرية والأدبية. |
ـ وإذا كان الأستاذ الكبير أحمد الشيباني قد حدد في المقدمة التي كتبها لكتاب الدكتور عريف، قد حدد منطلقات الحداثة في الفكر العربي وجعل في مقدمتها ((الإِلحاد)) مستشهداً بآراء الكاهن الأكبر للحداثيين ((أدونيس)) وذلك من خلال آرائه المطروحة في كتابه (الثابت والمتحول) والذي استقاها من أستاذه الكاهن اليسوعي ((بولس نوبا)) (انظر المقدمة ص: د - ز) فإنه من المفارقات العجيبة أن الحداثة الأوروبية بمفهومها الحالي والتي لا بد من فهمها وفق معطيات الفكر الأوروبي والسياقات الحضارية والاجتماعية التي نما وبرز فيها هذا الفكر - هذه الحداثة الأوروبية التي يحدد النقاد الغربيون بداياتها في العقدين الأخيرين من القرن التاسع عشر الميلادي ((1880م)) كما يشير إلى ذلك (مالكوكم برادبيري)، و (جيمس مكفارلين) في الفصل الذي عقداه عن اسم الحداثة وطبيعتها في الكتاب المعروف: |
Modernism, 1890 - 1930, (Pen Gvin Books, 1976, P40 -1930). |
وهي الحقبة التي شهدت ولادة وبزوغ أكبر مُنَظِّر حداثي أوروبي وهو ((توماس ستيرنز إليوت)) (Eliot) 1965 - 1880م. انظر عن سيرة هذا المبدع الأمريكي الأصل، الإِنجليزي الثقافة والمنزع، كتاب: |
(T.S. Eliot: Peter Ack Royd, London, 1984). |
هذا المنظّر الذي يلهج بذكره بعض أنصار الحداثة في عالمنا العربي وهم يجهلون أبسط الحقائق عن حياته وأفكاره، كان هذا المنظر ((إليوت)) من أوسع المثقفين اطلاعاً على التراث الذي سبقه وأعمقهم فقهاً به، وكان أيضاً - ولنفس السبب - من أشدهم حباً له وتقديراً لمزاياه، وأكثرهم حماسة في الدفاع عنه والانتصار له، وأسخاهم جهداً في دراسته واستكشاف مجهوله، وترويج كاسده وتحبيب القراء الحديثيين فيه ((انظر: قضية الشعر الجديد، د. محمد النويهي، ط2، 1971م، ص 334 - 335)). |
ـ ولكن الذي حاول الحداثيون العرب أن يتغافلوا عنه هو تلك العقيدة المسيحية ((الكاثوليكية)) التي كان يؤمن بها أشد الإِيمان كما أن شعره كان متبلوراً حول الفرد المنقذ، هو يدعو إلى الربط بين الأدب من ناحية والأخلاق من ناحية أخرى، ((وهو لا يكتفي بهذا الربط بل يصر على ربط الأدب بالإهيات ثابتة عامة شاملة وبأخلاق ثابتة عامة شاملة، وهي إلاهيات وأخلاقيات لا وجود لها إلا في الموقف الكاثوليكي من الدين، وهو يعترف بأن الحكم على الأعمال الأدبية اقترن دائماً في الماضي ولا يزال يقترن بالفكرة الأخلاقية)) انظر: ((دراسات أدبية، د. خليل كمال الدين، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط1، 1985م. ص 266)). |
ـ وإذا كان منظرو الحداثة في الفكر العربي طالبوا وفي مقدمتهم أدونيس بإسقاط التراث كما ذكر أستاذنا الشيباني في مقدمته الضافية لكتاب الدكتور عريف: ((وقد كان أدونيس أوضح الحداثيين (إن لم أقل أوقح الحداثيين) في مطالبته بإسقاط تراثنا من إسلامي وعربي. مستجيباً في ذلك لنصيحة أستاذه الكاهن اليسوعي ((بولس نويا)) الذي يخاطب أدونيس في الصفحة 16 من كتاب أدونيس ((الثابت والمتحول)) ويقول: ((لقد ذكرت في الأطروحة أن التراث هو بمثابة الأب ونحن نعلم أن الابن لا يستطيع أن يكتسب حريته ويحقق شخصيته إلا إذا قتل الأب، فعلى العربي أن يميت تراث الماضي في صورة الأب ليستعيده في صورة الابن))، إذا كانت هذه هي رؤية أدونيس للتراث الإِسلامي والعربي ورؤية تلامذة له أسلموا قيادهم لترّهاته وأباطيله وهي رؤية حاقدة تعبر عن فكر شعوبي بغيض، إلا أن رؤية منظر الحداثة الغربي (ت.س. إليوت) لتراثه الفكري والأدبي تغاير تلك الرؤية التي يجاهر بها أدونيس متحدياً كل مشاعر وأحاسيس أولئك الذين ينتمون لأمتنا الرائدة انتماءً حقيقياً لا مراوغة فيه، ف (إليوت) يكشف عمله الإِبداعي المشهور ((الأرض اليباب)) (The Waste Land) عن تقديره لتراثه وتأثره به، ولعلّ العمل الشعري ((لإِزراباوند)) Ezra Pound المعروف باسم (Hugh Selwyn Mouber Lay/1919-20) كان له أثره الواضح في قصيدة إليوت التي يعتبرها الحداثيون العرب دستورهم الوحيد الذي لا يحيدون عنه، ولكن المعرفة الناقصة والقراءة المبتورة لا يمكن أن ينتج منها عمل أدبي ناضج في ملامحه ومتميز في شخصيته. |
((عن تأثير أعمال إزراباوند في إليوت، انظر: The Waste Land: Stephen: Coote, and Bryan Loughrey, Penguin Books, 1985, P.P. 89 - 92). |
ـ لم يكن إزراباوند الوحيد من أدباء الغرب الذين كان ((إليوت)) ينظر إلى أعمالهم تلك النظرة التي تجسد احترامه لتراثه واعتزازه به، فلقد كان دانتي (Dante) دائم الحضور في أعمال إليوت بل إنه كما يقرر الدكتور لويس عوض ((لا سبيل إلى فهم إليوت إلا بدراسة ملحمة دانتي المشهورة.. الكوميديا الإِلهية))، كذلك يستخدم إليوت ما تعلمه من السير ((جيمس فريزر)) صاحب الغصن الذهبي، من مثولوجيا مقارنة بمهارة فائقة. |
ولقد تجد في قصيدة واحدة من ((الأرض اليباب، إشارات وتضمينات من سبنسر وشكسبير، وادي، وجولد سميث، وفرلين وأوفيد وسافو)). |
انظر: ((في الأدب الإنجليزي الحديث: د: لويس عوض، ط2، 1987م ص 292)). |
ـ ولقد حاول لويس عوض أن يغمز من شأن إليوت لتمسكه بتراثه الديني وارتباطه به ارتباطاً شديداً، ولم يكن لويس الوحيد من الشيوعيين والليبراليين العرب الذين أظهروا امتعاضهم من هذا الارتباط، فعداؤهم للدين حقيقة تنطق بها كل أعمالهم وإبداعاتهم، وإذا كان إليوت متشبثاً بتراثه الروحي ورموزه الدينية إلى هذا المدى، فإن ذلك يدل على فهمهم لحداثة الغرب يعوزه العمق وتنقصه الموضوعية، وإن تخليهم عن منطلقاتهم الدينية تحت ستار - الحداثة - لا يجعل منهم رواداً في تاريخ أمتهم، أو علامات مضيئة على طريق تراثها الفكري كما هي الحال مع الأدباء الغربيين الذين أدركوا أن الثمن سوف يكون فادحاً لو فكروا في التخلي عن شيء من تراثهم المسيحي الذي قدموه على جميع المنطلقات الأخرى، فيما يجاهر البعض من المحسوبين على الثقافة العربية بأن تضمين المفاهيم الدينية في العمل الأدبي يخرجه من دائرة الإِبداع إلى عمل أشبه ما يكون بالوعظ والإِرشاد. |
ـ ولو أردنا تقصي تلك المفارقات العجيبة التي وقع فيها الفكر الحداثي من جراء جهله بحداثة الغرب وما يرتبط بها من منطلقات دينية وفكرية تجعلها قضية طبيعية في ظل الظروف والسياقات الحضارية والاجتماعية التي عملت على بروزها في حقبة القرن التاسع عشر الميلادي - لو أردنا ذلك التقصي لضاق بنا المقام، وما دمنا محكومين بالمساحة المحددة على صفحات هذا الملحق الأغر فسوف نعود - إن شاء الله - لمناقشة القضية وسوف يكون رائدنا في ذلك كله البحث عن حقائق الأشياء بعيداً عن كل تعسف يؤدي إلى تشويه الحقيقة العلمية التي يسعى الجميع للوصول إليها. |
|