شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
ذكريات من باب العنبرية (10)
كتب إليّ الأخ الكريم الأستاذ قصي أبو الجدايل يذكرني ببعض الشخصيات التي عرفها وخالطها من أهل البلدة الطاهرة فأثار في داخلي من الشجن ما أثار، وظللتني سحابة الذكريات لأيام عشتها بين العنبرية وقباء. وكان الفتى يسير على أقدامه قاطعاً الطريق بين دارهم في قباء وحي الأغوات. وهناك وجد السر ثم اختفى مع أهله، وتبددت ضحكات مجلجلة تنبعث من نفوس توطنها الحب والصفاء، وضم الثرى في الربوة أجساداً أخرس الردى منها ألسنة ذربة كانت تتغنى بنشيد الحياة، وكان نشيدها يمتزج مع حبات الغمام فإذا الدنيا أذن صاغية، وإذا النفوس تبتل ودعاء.
الأخ أبو الجدايل ذكر العم زين بليلة، والده من رجالات المدينة (محمد بليلة) - رحمهما الله - كان الناس يسعون لمقهى محمد عبد الواحد الواقع بالقرب من مسجد أبي بكر الصديق، رضي الله عنه، في المناخة، ليسمعوا حديث (البليلة) وينصتوا لحكمته. وفجأة، وفي صباح يوم أغر من أيام البلدة المحبوبة، جاء الناس كعادتهم فافتقدوه في مجلسه وسرى في أرجاء المدينة الخبر (قضى محمد بليلة فاطلبوا له المغفرة). وسمعهم الفتى في المناخة يتهامسون: ((لقد مات الرجل كمداً)) ولكأني به يرصد عيوناً تتربص به، فأبت عليه كرامته ومنعته مقتضيات الحياة من الثأر لنفسه. فقضى وحمل اسم هذا الرجل حفيد له، ونشأ الفتى في رعاية والده (زين بليلة) وكان كبقية أنداده من أبناء البلدة الطاهرة أنيقاً في ملبسه، مهذباً في قوله، بهياً في طلعته، ولكن المنون لم تمهل هذا الفتى، قالوا إن سيارة صدمته أو دهسته، ولكنه الأجل يا صديقي حان فأودعه أبوه (زين) بيديه في مخدعه الأخير متجملاً بالصبر، وبكته امرأة فضلة يمنعني حياء نشأنا عليه من ذكر اسمها وهي تنتسب لأسرة كريمة.
كان (زين) يحب المزاح البريء فأضحى يميل للعزلة وغدت ضحكته ابتسامة خفيفة ولكنها لم تفقد رقتها وشفافيتها. كان العم (زين) من فئة الأدلاء بالحرم، يقف مع جموعهم بين بابي (جبريل) و(السلام) ولكنه فارقهم قبل أن يتفرق جمعهم أو يفرقه الآخرون ولكل أمر بداية ونهاية.
ورأيته ذات يوم يمشي قاطعاً الطريق بين شارع العينية والمناخة، ويلبس ثوباً أبيض وناصعاً كأحسن ما تكون الثياب نصاعة وجمالاً، ويرتدي (صدرية) زينت أطرافها بما كانت تزين به الملابس من (قيطان) وغيره. وكان، رحمه الله، يدرك أنني أعرف فلذة كبده، فابتسم في وجهي، وأن الفتى ليستطيع القول جازماً بأنه لم يلحظ في حياته ابتسامة صادقة وهادئة كابتسامة هذا الرجل.
كان أبناء (زين بليلة) وأبناء الشيخ حمزة عوض، رحمهما الله، من شجرة واحدة. دار جدتهم لأمهم في باب المجيدي. وكان الشيخ عوض يسكن في (التواتية) حيث مقر منزل الشيخ فضل الرحمن - رحمه الله - وآل النبراوي وغيرهم.
كان حمزة عوض، رحمه الله، يملك صوتاً رخيماً وكان إذا وقف بـ(مشلحه) الأسود، أمام الحضرة النبوية بكى وأبكى. ويجعلك بالكلمات النابعة من أعماق نفسه تعيش ذلك الماضي الذي وقفت فيه الدنيا تسمع صوت الحق ونداء الفطرة، حيث صدع سيد البشر أجمعين وخاتم الأنبياء والمرسلين بالدعوة، فلبت النداء أمم واستجابت له بصائر وأبصار.
وفي يوم مبارك وفي ساعة إجابة وبالقرب من المكان الطاهر الذي اعتاد (حمزة عوض) أن يقف بالناس مسلماً وللحبيب صلى الله عليه وسلم معظماً ومبجلاً، كما أمر الله بذلك في كتابه العزيز، وضع الرجل جبهته ساجداً في صلاة جماعة بالمسجد الشريف، ولم يرفع رأسه فلقد قبضت روحه وهو في تلك الحالة التي يكون العبد فيها أقرب ما يكون لخالقه وبارئه عز وجل. يا صديقي: (هؤلاء جيران حبيبه الذين اصطفاهم الله للجوار، فتأدب، وهذه نفوس لا تعرف الحقد والبغضاء والغش والكذب، فاعتبر، وإن شئت فتعجب وتلك أرواح مازجها حب الله ورسوله فما عليك إلا أن تحاسب نفسك ثم تصمت وانظر لخاتمة حسنة لرجل كهذا قضى حياته متأدباً، ثم انظر إلى بعض قوم يفتخرون بأنهم جاوروا المسجد والروضة ولكنهم سعياً لصفاء المعتقد لم يقفوا على قبره مسلمين وإذا قلت لهم إن سيدنا عبد الله بن عمر رضي الله عنه وقف وسلم وأن التابعين والأئمة اقتدوا بفعله ولم يجدوا في ذلك منكراً، وأن علماء عارفين من أمثال المشائخ عبد العزيز بن باز وعبد العزيز بن صالح ومحمد بن عثيمين أسكنهم الله فسيح جناته، وهم القدوة والمثل في صفاء العقيدة ونقائها وفي الالتزام بشرع الله وسنة نبيه، قد وقفوا أمام المقام متأدبين ومسلمين، إذا قلت لهم ذلك ارتفعت أصوات نشاز لتقول لك: إن محدث العصر لم يفعله وأن صاحب الرسائل منعه وزجر عنه. ومن يكون هؤلاء بجانب علماء الأمة أولها إلى آخرها؟ أو ليس فعل الصحابي حجة، وفعل علماء السلف قدوة؟
فليخلص هذا البعض نفسه من هذه الجفوة، وليحسن الظن بعقائد الناس، ولقد فاضت كتب السنة النبوية بوجوب حسن الظن بإخواننا المسلمين.
يقول حجة الإسلام الإمام أبو حامد الغزالي، رحمه الله، في رسالته الفريدة (فيصل التفرقة بين الكفر والزندقة) موضحاً ما يمكن أن يترتب على رمي المسلم في عقيدته بغير برهان ولا دليل: ((الكفر حكم شرعي كالرق والحرية مثلاً، إذ معناه إباحة الدم والحكم بالخلود في النار، ومدركه شرعي، فيدرك إما بنص وإما بقياس على منصوص وقد وردت النصوص في اليهود والنصارى والتحق بهم بالطريق الأولى البراهمة والثنوية والزنادقة والدهرية وكلهم مشركون فإنهم مكذبون للرسول فكل كافر مكذب للرسول وكل مكذب فهو كافر فهذه هي العلاقة المطردة المنعكسة)).
وهذا إمام من أئمة الدعوة وعالم أوقف حياته على العلم وطلبه وتعليمه، وأجمع الناس على فقهه بالدين وأحكامه، والشريعة وأصولها، وهو الشيخ عبد العزيز بن باز، رحمه الله، الذي أصدر في بيان عن إدارة البحوث والإفتاء يحذر بعض طلبة العلم من مغبة التكفير والتفسيق والتبديع، فقال، رحمه الله، ((فالذي أنصح به هؤلاء الأخوة الذين وقعوا في أعراض الدعاة ونالوا منهم، أن يتوبوا إلى الله تعالى مما كتبته أيديهم أو تلفظت به ألسنتهم مما كان سبباً في إفساد قلوب بعض الشباب، وشحنهم الأحقاد والضغائن، وشغلهم عن طلب العلم النافع وعن الدعوة إلى الله بالقيل والكلام عن فلان وفلان، والبحث عما يعتبرونه أخطاء للآخرين وتصيدها وتكلف ذلك. كما أنصحهم أن يكفروا عما فعلوا بكتابة أو غيرها مما يبرئون فيه أنفسهم في مثل هذا الفعل ويزيلون ما علق في أذهان من يستمع إليه من قولهم وأن يقبلوا على الأعمال المثمرة التي تقرب إلى الله وتكون نافعة للعباد، وأن يحذروا من التعجل في إطلاق التكفير أو التفسيق أو التبديع لغيرهم بغير بينة ولا برهان، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: من قال لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما.
إن الأمة الإسلامية تعيش صراعاً شرساً ومريراً مع أعدائها من الصليبيين واليهود، وإن جراحها كثيرة وبكاء الثكالى والأرامل والشيوخ في فلسطين وغيرها مما ترق له الصخور قبل القلوب، وأن الأمة تفرقها الأهواء، وتعجل بخصوماتها انفرادية الرأي الواحد، وتلقى التهم فيها جزافاً لا تستطيع أن تواجه هذا العدو المتعدد الوجوه والمتفرق في كثير من شؤون الحياة إلا فيما يخص أعداء الأمة الإسلامية فهو متوحد ومجتمع شمله. ولا يصلح أمر أمة الإسلام إلا ما صلح به أولها من احتكام لكتاب الله وسنة نبيه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وإشاعة روح الحب والتسامح وحسن الظن بين جموع الأمة. وأن يكون الحوار الهادىء هو الطريق للوصول إلى الحق، وليس الحراب ولا السيوف، فذلك مما يوجه إلى صدور أعداء الأمة الذين يقفون لها بكل سبيل، ويزرعون الأشواك في طريقها ليحولوا بينها وبين الوصول إلى الغاية المثلى من التكاتف والتماسك. وإن الحب لهو ما يجمع الناس وأن البغضاء والشحناء مما يفرقها ويدعها نهباً للعواصف والرياح.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :669  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 136 من 482
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذة الدكتورة عزيزة بنت عبد العزيز المانع

الأكاديمية والكاتبة والصحافية والأديبة المعروفة.