شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
ذكريات من باب العنبرية (8)
لن ينسى الفتى صورة ذلك الفتى الأسمر الذي كان يسند ظهره إلى حائط كوبري المدرج، والناس في القيلولة نيام، ممسكاً بتلك الآلة الخشبية بين يديه، نافثاً فيها من أنفاسه التي تحمل أنات حزينة. ولا يسعك إلا أن تفتح روشان منزلك فتسمع إنشاد (جمعة) والعرق يتصبب من جبينه قطرات حرّى وكان الفتى يأنس لذلك كله ويشعر بالتعاطف مع إنسان لا يجد ملاذاً إلا في ظل الشجرة التي كانت تظلل الحي كله. فهي للمسجد الذي يحمل اسم الخليفة الثاني سيدنا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - هي لفناء المسجد وقاء، ولأطفال الحي حب وحنان. فهم يرمونها بالحجارة الصغيرة وهي تمنحهم حبات النبق الحلوة المذاق.
وهي الأنيس لمن كتبت عليهم الوحدة أو تعشقوا ذلك النمط من الحياة الهادئة البعيدة عن صخب الحياة وضجيجها. وربما كان (جمعة) لا يجد من يناجيه من الناس من أحد، فاختار شجرة النبق أنيساً وحبيباً. وكأن ملامح وجهه تنطق بالأسى من جحود البعض وتنكرهم، ولربما وجد البعض فيما خلقه الله من طبيعة تبرهن على عظمة الخالق وقدرته لربما وجدوا في الجبل، والنهر والبحر، وخضرة الأرض ما يغنيهم عن حب يبذلون له مهجهم، ويتحملون من أجله عناء يثقل النفوس وتوهن معه قلوب لا تقوى على تحمل هذا الطبع المتجذر في داخل النفس الإنسانية. وكان باعثاً وراء ما أبدعه الإنسان من فنون متنوعة حفظت للحياة بهاءها وصفاءها، وبقي الإبداع رمزاً للعطاء الإنساني الجميل وقضى أصحابه في كثير من الأحيان صبراً وكمداً وحزناً.
يختفي (جمعة) بعد أن يرسل تلك الأنات الحزينة. ويبدو مع إيذان الشمس بالغروب بروز امرأة تتشح بالسواد عائدة إلى منزلها في قباء بعد تركها له مع صباح كل يوم. ويسمع الفتى تفسيرات متعددة لسلوك هذه السيدة سمعها تتمتم قائلة: ((لقد فقدت ابني الوحيد)) وسأل نفسه لماذا كانت تلك المرأة الأنيسة التي لا تفارق دارهم تتعاطف مع تلك المرأة التي تلبس الجامة السوداء؟ وأدرك في كبره أن ذلك التعاطف كان مرده إلى أن تلك السيدة الأنيسة المتأنقة في لباسها وحديثها لم ترزق الأولاد مع أنها كانت محظية بالزواج أكثر من لداتها من نساء الحي في حوش عميرة. وكانت الأسر تتنافس في أن تقضي معهم الخالة آسية رحمها الله أكبر وقت. فهي تجيد إلقاء ذلك الفن الذي اختفى أو اندثر، أو أن قصص الأطفال حلت محله، وأعني به فن الحكاية الشعبية على ضوء القمر وفي هدوء الليل يغطي المدينة الطاهرة جلالاً وسكوناً. وعلى سطح المنزل المطل على مجرى سيل أبي جيدة لطالما استمع الفتى من المرأة الأنيقة حكاياتها التي تبدأها بالقول: ((وحدوا الله، واللي عليه ذنب أو خطية يستغفر الله)) ثم تبدأ في سرد حكاياتها. وتختلف خاتمة الحكاية، فبعضها له نهاية سعيدة، وبعضها نهايته محزنة، والبعض ليس له قفلة. والباب مفتوح للمختصين في الأدب الشعبي لدراسة هذا الفن الذي اندثر مع مجيء أجهزة التلفازن ودخولها للبيوت رضا أو عنوة، ثم تبع ذلك دخول أجهزة الكمبيوتر بجميع تقنياتها الحديثة. ومع هذا كله فلقد بقي في داخل الإنسان حنين لما هو فطري أو طبيعي من الأشياء بل إنه من المفيد أن ننظر إلى هذا الإنسان الغربي الذي اخترع معظم تقنيات العصر إلا أنه لم يعطها ثقته فالرجل في الغرب لا يركب السيارة إلا في الرحلات الطويلة، ويذهب للريف ليستمتع بالحياة الطبيعية، ويسكن البيوت الحجرية ولم ير في بقائها غضاضة، بل إنه يحافظ عليها وعلى الشوارع المرصوفة بالحجر أو البلاط القديم، ويمشي على رجليه متنقلاً بين المنزل والنادي، ويترك سيارته في مكان بعيد ليسير في قلب المدينة الذي لم يتغير منذ عشرات السنين، ويبحث عن السوق الشعبي بين بقية الأسواق ليشتري منه لوحة، أو حلية، أو كتاباً قديماً يحكي تاريخ مدينته أو حضارته، أو ليردد مع شيللي، وباليوت نغماً شعرياً مثل ذلك النشيد الذي يناجي القمر في وحدته وضيائه الشاحب.
أشاحب أنت؟ لتسلقك أبراج السماء مجهداً ولتحديقك في الأرض
هائماً على وجهك بلا رفيق
بين النجوم والمختلفة الأصل
هل يتغير شكلك يوماً بعد يوم
لأنك كعين في كمد
لا تجد ما يستحق ثباتها
لقد أعطينا هذه الحضارة المادية من الثقة العمياء فيها، والركون إليها ما لم يعطه إياها الإنسان الذي ساهم مساهمة فعّالة في صنعها. وأضعنا في هذا الطريق الطويل كثيراً من براءتنا وصفاتنا. ولو كانت لنا مشاركة في صنعها لما لوينا ألسنتنا وأشبعناها ثناء أو ذماً فالبعض يتوهم أن حضارة هذا الغرب في هذا الذي يدعونه برقصة (الروك) أو مجموعة (البيتلز) أو في أفلام هوليود المليئة بالمشاهد التي تصور الإنسان حيواناً شرهاً بلا ضوابط أو قيود.
ونسينا في كلا الجانبين أن المعامل في الغرب تزدحم بالرجال الذين جعلوا من البحث والتقصي العميقين هدفاً لكل ما يرضي عقولاً منهم تبحث، ومشاعر لكل جديد ومفيد تتحفز، وأننا افتقدنا البساطة في المظهر والملبس والتي هي جزء من تراثنا وحضارتنا الأصيلة. وعرف الغرب كيف يفيد من هذا كله، فهو المنتج لزاد هذه الحضارة وهو المعتدل أو غير المفرط في الاعتماد عليها، ونأت به تلك البساطة عن كل تلك الشكليات التي تعوق الإنسان الآخر منا ليس في حركته اليومية فقط ولكن في مسيرته كلها، من تخفف وتباطأ من أثقل نفسه بما يثقل حمله، والركب لا يقوى على الانتظار وليس فيه مكان للمتخلفين.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :712  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 134 من 482
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذ الدكتور عبد الله بن أحمد الفيفي

الشاعر والأديب والناقد, عضو مجلس الشورى، الأستاذ بجامعة الملك سعود، له أكثر من 14 مؤلفاً في الشعر والنقد والأدب.