شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
ذكريات من باب العنبرية (7)
لا يتذكر الفتى متى رأى بعد عودته من صلاة العيد، أبواب المنازل ونوافذها مشرعة، لم تكن الأبواب يا صديقي هي التي تفتح على مصراعيها، ولم تكن (الرواشين) وحدها التي إذا ما وضعت أكواب الشاي على أطرافها لتتناولها الأيدي في رشاقة ثم تعود حيث كانت وكأنها ثبتت على تلك الأطراف تثبيتاً لا يتناثر منها شيء، ولا يرشح من قاعدتها ما يفسد منظرها البهي ولقد زين أعلاها بتلك الخطوط الذهبية البديعة.
كان قبل ذلك قلوب قد ملئت حباً صادقاً، ونفوس قد تخلصت من الغش والحقد، ووجوه قد كساها الإيمان هيبة ووقاراً، وأنه ليرى الناس يدخلون أفواجاً لتلك المنازل الواقعة أمام مبنى الإمارة القديم خلف مسجد المصلى أو الغمامة، وكان من تلك المنازل المتميزة دار وساعة يسكنها معظم آل البري، وهي من أقدم الأسر التي جاورت في بلد المصطفى صلى الله عليه وسلم.
لقد أدرك الفتى وجوهاً نضرة من آل البري، منهم محسن بري، وقد كان يعمل في حقبة ماضية رئيساً لديوان الإمارة. وكانت داره في باب الشامي بجوار منزل السيد أمين مدني مفتوحة للزوار والضيوف. وكان أبو (إحسان) يحتفظ بعلاقات إنسانية مع حاضرة المدينة وباديتها. ولقد سمعت الشيخ عوض الشريوفي (من رجالات حرب فرع الحوازم) يقول: ((كنا إذا قدمنا إلى المدينة لا يتركنا الأفندي محسن من دون ضيافة)) وكان الشيخ برادة صديقاً حميماً لصاحب تلك الدار، فإذا زار المدينة اجتمع القوم وازدان بهم مقعد يعرفه الفتى وهو على يمين الداخل للدار، فلا يحلو مجلس الأدب والمعرفة من دون حضور الريس عبد الستار بخاري الموسوعة في التاريخ والأدب، وعلم القراءات. وكان صاحب صوت ينبعث منه الجلال والخشوع إذا ما رفع الأذان من (المنارة الرئيسية) - هكذا ينطقونها في المدينة - أو (منارة باب السلام) وكان من إتقانه للقرآن الكريم حفظاً وترتيلاً، لا يقوى على السكوت إذا ما سمع خطأ في التلاوة حتى وإن كان في ذلك المكان المرتفع والمطل على الروضة والذي يدعونه بـ(المكبرية) نسبة إلى (التكبير) وراء الإمام. وكان إذا غاب الريس من (المكبرية) لانشغاله أحياناً بتدريس القرآن في مدرسة القراءات التي كان يديرها السيد أحمد ياسين خياري، سأل عن سبب غيابه شيخ من خير الرجال الذين ارتقوا المنبر والمحراب في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعني به فضيلة الشيخ عبد العزيز بن صالح - رحمه الله -. ولا أخال الناس إلا تزدهي وتسر من ذكر سيرة هذا الرجل الذي كان رفيقاً بالأمة، ومتأدباً في الجوار وملماً بالفقه ومقاصد الشريعة. فهو عالم وفقيه قبل أن يكون إماماً وخطيباً. ولقد عرف الفتى وجوهاً كريمة أخرى من أسرة آل البري، منهم أبو الهدى بري شقيق (محسن) وكان لا يفارق مثل أخيه لبس العباءة أو (المشلح). ولقد كانت دار عبد الجليل بري في المناخة مفتوحة للمقيمين والزائرين بل رأيت العلماء من الديار الأخرى يؤمون دار ذلك الرجل الكريم. أما دار عبد الغني بري والد مأمون وإخوانه - فإن لم تخن الذاكرة الفتى - فقد كانت تقوم على مدخل حي الساحة من جهة مسجد سيدنا مالك بن سنان - رضي الله عنه - والد الصحابي الجليل أبي سعيد الخدري - رضي الله عنهما - وكان عبد الغني بري ينظم الشعر مثله في ذلك مثل الشيخين إبراهيم وابنه عمر بري. فمع أن الشيخ عمر كان محدثاً في الحرم النبوي الشريف إلا أنه كان للأدب نصيبٌ كبيرٌ من ثقافته، وخلف ديواناً شعرياً حققه الدكتور الأديب محمد العيد الخطراوي - عفا الله عنه وشافاه.
وحدثني الأستاذ محمد حميدة - بقية أهل الفضل في المدينة - بأن الشيخ عمر كان يملك ذاكرة قوية حتى إنه ليكاد يحفظ كتاب (الأغاني) لأبي فرج الأصفهاني.
ولعلك لا تجد عند ذلك الجيل من العلماء ما يمكن أن يوصف بإقامة الحدود والحواجز بين علوم الدين وعلوم الفكر والأدب. وكانت جميع صنوف وفنون العلم والمعرفة تشكل كلاً واحداً لا يتجزأ. أما المرحوم محمد العمري المتوفى في الستينيات الهجرية الذي كان عالماً فذاً يدرس علوم الدين في المسجد الطاهر، فإنني أحفظ من شعره ما لو أنني رويته لهاج البعض واندهش البعض الآخر. ولقد شطّر تلميذه السيد عبيد الله مدني شيئاً من تلك المقطوعات الغزلية وسمعت أن السيد محمد محمد أمين كتبي ينظم الحولية في كل عام مدحاً في رسول الله صلى الله عليه وسلم فيحلق بسامعيه في أجواء الشعر كما كان يحلق برواد حلقته في المسجد الحرام في علوم اللغة التي كان لا يشق له غبار فيها.
ومن هذا الصنف من العلماء الشيخ إبراهيم فطاني فلقد كان فقيهاً وقاضياً وشاعراً متميزاً وأنشد المنشدون من شعر (العمري) و(الكتبي) و(الفطاني) فلامس ذلك الشعر منهم القلوب وأرهف المشاعر واستدر الدمع حباً ووجداً وهياماً.
ولعلي نسيت أن أذكر من آل البري الرجل الوديع أمين بري فلقد كان كريماً وفتح أبواب داره التي تعود ملكيتها في السابق لآل سعود والمطلة على زقاق الطوال وشارع العينية. وذكر إبراهيم رفعت في كتاب (مرآة الحرمين) أن وظيفة شيخ الفراشين في الحرم النبوي الشريف كان يشغلها - آنذاك - رجل اسمه أمين بري. وأتى الأمير شكيب أرسلان في كتاب (حاضر العالم الإسلامي) على ذكر أسرة آل البري الكريمة.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1082  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 133 من 482
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور سعد عبد العزيز مصلوح

أحد علماء الأسلوب الإحصائي اللغوي ، وأحد أعلام الدراسات اللسانية، وأحد أعمدة الترجمة في المنطقة العربية، وأحد الأكاديميين، الذين زاوجوا بين الشعر، والبحث، واللغة، له أكثر من 30 مؤلفا في اللسانيات والترجمة، والنقد الأدبي، واللغة، قادم خصيصا من الكويت الشقيق.