شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
ذكريات من باب العنبرية (6)
يخرج الفتى من المدرسة التي اختارها له والده معتقداً، وكان على حق فيما ذهب إليه، بأنها من أفضل دور العلم في البلد الطاهر يخرج لأداء صلاة الظهر في المسجد الطاهر وسمع المؤذن يعلن الصلاة على الميت صلى في الصفوف الأولى، ثم تسلل بين الناس ووصل إلى باب (جبريل) حيث تخرج (الجنائز) من هناك، ويقصد بها أهلها المقبرة التي تحمل في المدينة اسماً خاصاً وهو (البقيع). إنه يريد الولوج إلى داخل هذا المكان الذي تحيط به الأسوار، وعلى بابه يقف الحراس. وكان دخول صغار السن آنذاك ممنوعاً وفجأة يبرز وجه يعرفه من (أهل العنبرية) ومن حوش (مَنَّاع) الذي كان يسكنه عدد كبير منه (الحيدري) وهي أسرة كريمة عرف الفتى منها الشيخ محسن الحيدري والذي كان صديقاً حميماً لوالده وهو ابن للشيخ (عتيق) الذي نال من الحظوة لكرمه وشهامته ما هو جدير به حباً وثناء وذكرى طيبة.
لقد كان الوجه المعروف لدى الفتى هو (العم محمد بن عيد الحيدري) واحد من الرجال إذا مشى من (حوش مَنَّاع) إلى العنبرية حيث دار صديقه السيد حبيب محمود أحمد - عافاه الله - التفتت الأنظار إليه. فثيابه العروبية الفضفاضة هي من التميز بحيث تتحرك أطرافه أناقة مع مشية (العزّ) التي كان يمشيها هذا الرجل الذي قضى في يوم من أيام الغفران والرحمة وهو يوم العيد. هؤلاء - يا صديقي - جيران حبيبه ومصطفاه وأنه - عز وجل - ليحسن الخاتمة لكثير منهم. فهم المحبون لله ورسوله، والباذلون من جيوبهم عطاء، ويتحدثون في أدب جم فكأن العطر ينسكب وريح الصبا تهب، والمزن تتقاطر ذراته حباً ورقة وشفافية.
أمسك الفتى بذراع الجار الكريم وتوسل إليه أن يدخله معه ليتجاوز هذه الأسوار إلى ما وراءها - لم يخيب الرجل توسله، فهو يعرف أباه، وأمسك بيده وتجاوز الحارس الذي كان يرد الناس برفق. اليوم يا صديقي يدفعك البعض دفعاً ويرفع صوته محذراً وكأنك قادم من عصر الجاهلية، أو كأن هذه الأرض لم تعرف نزول الوحي وانتشار العلم والمعرفة بحيث عبادة غير الله لا يمكن أن توجد في أرض الحرمين الشريفين. فنحن نطبق شرع الله ونلتزم به جماعات وأفراداً. ولا حاجة لهذه الوصاية العنيفة التي تُنَفّر الناس وترسم صورة قاتمة ما أغنى مجتمعنا الطيب والملتزم عنها، فهلا يفيقون؟
كان الفتى يحس بشيء من الرهبة بددها بروز بعض الوجوه التي يعرفها، وكان من بينها وجه العم أحمد عسيلان - رحمه الله - الصديق الحميم لحسين شوبل وجميل عبده والرفيق في مجلس المحبة لـ(حمزة الفت) و(إبراهيم صباغ) رحم الله تلك النفوس البريئة.
وأمسك أحدهم بيدي العم (العسيلان) المرتعشتين، فلقد كان يريد إلقاء نظرة الوداع على من تمدد جسده بالقرب من تلك الربوة الطاهرة ووجد القوم الأتقياء من الحرص بحيث يجلب بعضهم (الطوب) الذي كان يصنع في داخل (البقيع)، طوب مادته من ذرات الأرض المؤمنة والطاهرة. والبعض الآخر يلقي (حفنة) من التراب الذي امتزج بتراب الأجساد الطاهرة من الصحابة وآل البيت والتابعين والأخيار - رضي الله عنهم - والبعض يرفع يديه داعياً لمن يريد أن يحل في داره الحقيقية موئلاً وسكناً، ويكون بين يدي المولى الكريم الذي جعل الرحمة من صفاته الأزلية والتي يتعلق بها عباده وعبيده ويتشبثون بها في حياتهم، وعندما يوهن منهم العظم، ويشتعل الرأس شيباً.
في صباح يوم أغر - هو يوم عيد الفطر - أسلم ذلك الرجل روحه. الرجل الذي جعل الفتى يكسر حاجز الخوف في نفسه من ذلك السور القائم، والباب الخشبي العتيق. من دون مقدمات تمدد العم (محمد بن عيد) وتوجه للقبلة فكان صعود الروح لبارئها، وخرج جاره العم الطيب القلب والقول (أحمد عسيلان) وكان معتزلاً في داره ولم تعد سماء الأرض الطاهرة ووديانها تردد صوته الشجي محلقاً ومتسامياً:
عيري على السلوان قادر
وسواي في العشاق غادر
خرج (الشاوش) وكانت الكنية دلالة طيبة على رجل طيب في أرض طيبة، وتحدث بصوت متهدج حزين وقال: ((سوف تدفنوني بعده)) ولم يمر الشهر حتى حمل سكان حوشي (منَّاع) و(عميرة) وأهل (العنبرية) ذلك الجسد النحيل وأودعوه تلك الربوة التي رآها الفتى إبان طفولته وهو ينظر إليها في كثير من الشوق والحنين.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :671  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 132 من 482
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذ الدكتور سليمان بن عبد الرحمن الذييب

المتخصص في دراسة النقوش النبطية والآرامية، له 20 مؤلفاً في الآثار السعودية، 24 كتابا مترجماً، و7 مؤلفات بالانجليزية.