شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
ذكريات من باب العنبرية (4)
في أيام الخليف (عيد الأضحى) كانت المدينة تكاد تخلو من سكانها، وكانوا قلة فهم يذهبون للحج، في تلك الأيام الخالية التي لا يسمع فيها إلا صوت (السانية) يتسلل الصوت من بين الأشجار، ليصل إلى الأسماع في جميع البيوت المحيطة ببساتين مثل (الحجارية) في التاجوري و(أم هاني) في (السيح) و(الزاهدية) في قباء... وهذه الأخيرة جفت مياهها، وتساقط ورق أشجارها، وخلت من روادها بعد أن انتقل إلى رحمة المولى صاحبها الشيخ محمد سرور الصبان. لم يمت بموته بستان الزاهدية فحسب ولكن بموت أبي حسن أقفلت دور، وتيتم رجال. وكنت تدخل البلد الحرام فأول ما تقع عينك عليه، هو بستان (الشيخ). كانت الحياة تسري به كما يسري الماء في (قناطر) تربته، ولكن نخلته قد تقوست والأرض يبست، وصوت الحادي اختفى، عندما ضمت الحجون والمعلاة ذلك الألمعي الذي قال فيه شاعر جازان الكبير محمد علي السنوسي يرثيه:
أبا حسن كم في الحجاز عواطف
تذوب التياعاً مثل ما يحرق الشمع
الذين عاشروا (محمد سرور الصبان) لم يدونوا سيرته والذين عرفوه عن بعد، كانوا الأكثر تعلقاً به وسمعت الأستاذ الأديب بسام البسام معلقاً على أبيات شعرية قالوا إن الصبان كان يضعها فوق رأسه، وهي الآن موجودة في صالون أبي الشيماء الأستاذ محمد سعيد طيب. لقد قال أستاذنا البسام إنه يحق (لمحمد سرور) أن يضعها بحيث يراها كل من دخل داره في أم الدرج فلقد طوق أعناق الرجال حقاً بالمتن. وكأنني استوحي من كلام أبي طارق، أنه كم من ثري استطاع أن يصل إلى قلوب عامة الناس وخاصتهم؟ مثلما كان الحب الخطوة للشيخ الصبان.
لقد كان (الصبان) - رحمه الله - صاحب أياد بيضاء على أهل الفكر والأدب في داخل هذه البلاد وخارجها.
وأشار الأستاذ المرحوم عزيز ضياء في كلمة رثى بها (الصبان) مضمونها أن محمد سرور يسمع الكلمات جهراً وهمساً من أناس يأكلون على مائدته ويشربون من إنائه، ويطرقون بابه في الملمات، فيكرمهم وهو حافظ لكرامتهم. ومع هذا كان يقابل الكلمات التي تجري على ألسنتهم حسداً بابتسامة عريضة. وربما تغافل عن سماعها أخذاً بقول الشاعر:
ليس الغبي بسيد في قومه
ولكن سيد قومه المتغابي
كانت يد محمد سرور طويلة في الخير كطول قامته. وكان حلمه مضرب المثل حتى بين أولئك الذين لا يميلون لشخصه.
وحدثني الشاعر والصديق محمد صالح باخطمة أن حمزة شحاتة الذي لم يكن على وفاق مع الصبان دوماً كتب إليه في أخريات حياته، وكان شحاتة يعيش في مصر حياة الكفاف بعد أن كف بصره وارتضى العزلة بعيداً عن صخب الحياة وضجيجها، كتب إليه في حاجة ما واستخدم العبارة التالية: ((إنني أكتب إليك ولعلك تعجب عما أكتب إليك بشأنه!!)) فلقد كان شحاته شامخاً في كل شيء في شعره في نثره، في مواقفه، في أحاديثه وكان أنيقاً في كل شيء أناقة لم يبق اليوم منها شيء وشموخ دفن مع النفوس التي تشربته أو تعمقته حتى الثمالة.
يواصل الصديق الكريم باخطمة حديثه لي وكان - عندئذٍ - قنصلاً في السفارة السعودية بمصر. وكان على صلة كبيرة مع الأستاذ شحاتة في أخريات حياته. لقد أتى الرد المطلوب من محمد سرور في مدة لا تزيد على اليوم والليلة. وذكر الأستاذ الزيدان وكان هو الآخر - رحمه الله - ليس على وفاق مع الصبان، بأنه على الرغم من الجفوة التي كانت تحيط علاقة الصبان بشحاتة، إلا أن شحاتة كان يرفض أن يذكر الشيخ عنده بسوء ويغضب لذلك.
وأروي شخصياً عن الوجيه إبراهيم شاكر - سمعته يتحدث بها في منزل والدي - رحمهما الله - بقباء بالزاهدية: ((إن شحاتة كان يكتب شعراً فيه شيء من الهجاء للصبان، وكان هناك شخص لا يحب الصبان، فأرسل أحد خاصته ليعبر عن إعجابه الشخصي بشعر شحاتة الذي كان ينشر تحت اسم مستعار، ودخل الوسيط على الإنسان (شحاتة) ونقل له إعجاب ولي نعمته بما يكتبه من شعر. وبما تومىء به أبيات ذلك القصيد المتوهج.
فغضب حمزة غضباً شديداً، وكف عن شعره في هذا المنحى، فلم يرض أن يستخدم أداة لتصفية حسابات شخصية بين (الصبان) ومناوئيه، وأروي عن الوالد - رحمه الله - في هذا الشأن - أيضاً أن رجلاً اسمه حسين فوال - آمل أن تكون الذاكرة قد أسعفتني في تذكر اسمه الصحيح - كان يعمل سائقاً خاصاً للشيخ (الصبان)، وقد وشى البعض عند أحد إخوان الشيخ بأن شقيق سائقه يبيع البنزين خلسة وكان الوقود في تلك الحقبة شحيحاً فما كان من أخي الشيخ (الصبان) إلا أن ينفس عن ذلك بضرب السائق، ولما حان موعد خروج الشيخ من منزله سأل عن الرجل فقالوا له إنه غادر وترك مفاتيح السيارة، وعرف (الصبان) بالقصة وطلب السائق، وطيب خاطره، وعينه رئيساً للكراج، والتفت إلى أخيه قائلاً: إذا افترضنا أن أحداً سرق دارنا، فإن (العيش والملح) يوجب علينا أن نخرجه من دارنا نظيفاً فكيف وهو ملء برديه نظافة وطهراً، وكان يقصد بانتساب السائق لبلد المصطفى صلى الله عليه وسلم.
وسمعت قبل ما يقرب من ثلاثة عقود الشيخ حسن بن ذياب بن ناصر الصهر للسادة آل المدني (وذلك بعد قدومه من رحلته الطويلة في تركيا واستقراره في المدينة، ولقد كان والده أحد رجالات المدينة والذين حظوا بثقة المغفور له الملك عبد العزيز بعد تسليم المدينة) سمعت الشيخ حسن في المناخة يخاطب والدي قائلاً: ((دخلت على محمد سرور في عزه، فقام وأجلسني بجانبه، وسألني إن كانت لي حاجة يتشرف بقضائها، أما المرحوم العلامة الأستاذ أحمد عبد الغفور عطار، فلقد كتب بعد وفاة الشيخ يقول: ((إن ضائقة حلت بأديب العربية الكبير الأستاذ عباس محمود العقاد - رحمه الله - وكان عفيف النفس إلى حد بعيد فعلم العطار بذلك للصلة التي تربط بين الرجلين، فأخبر الشيخ محمد سرور، ففكر الصبان ملياً في مساعدته دون أن يجرح كبرياءه فأرسل في طلب أعداد كثيرة من كتبه (العبقريات) وضاعف له الثمن، وبهذا حفظ للعقاد كرامته وكبرياءه)).
لقد سمعت المرحوم إبراهيم فودة يتحدث عن الشيخ الصبان حديثاً ممتعاً وذلك في منزل اللواء علي زين العابدين وكان (الفودة) عمل لفترة سكرتيراً للشيخ الصبان ومات إبراهيم ولم يدون شيئاً من تلك السيرة العطرة. وكل ما هو متوافر في أيدينا كتاب المرحوم عبد الله عريف، وبقيت الكلمة أمانة في عنق الإنسان المهذب الأديب أمين عبد الله فهو من خير من يعرف الصبان. فهل يستجيب لهذا النداء، ويقول كلمته عن واحد من أبرز رجال عصره، وأكثرهم جرأة، وأمتعهم حديثاً وأصفاهم نفساً، وأوسعهم خلقاً وأطولهم، في الخير يداً وندى؟!
((محمد سرور لم يصنع الأدب، ولكنه بجهد الابتسامة الراسخة، والإيجابية الطامحة قد نشره وبهذا كان خيراً من صانعيه.
(من مقال للأستاذ محمد حسين زيدان، محمد سرور، البلاد، 4/12/1391هـ).
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1004  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 130 من 482
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاثنينية - إصدار خاص بمناسبة مرور 25 عاماً على تأسيسها

[الجزء السابع - الكشاف الصحفي لحفلات التكريم: 2007]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج