شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
ذكريات من باب العنبرية (3)
كان الفتى يلحظ في وجوه سكان هذا الحي من المدينة الطاهرة كثيراً من سمات البراءة والنقاء. على الرغم من تباين المناطق التي قدم منها هؤلاء القوم، إلا أن تربة المدينة المباركة وهواءها وتلك النفحات التي خصهم بها سيد البشر - عليه صلوات الله وسلامه - بالدعاء لهم بالبركة والدعوة إلى محبتهم، كل ذلك وغيره صهر القوم وجعل منهم وحدة مترابطة وقواماً متماسكاً.
أزقة العنبرية، أحواشها، ومنها الراعي، الجوهري، أبو ذراع، أبو جنب، سنان، مرمه، الهاشمية، السلطان... يسكنها بعض المنتسبين إلى قبيلة حرب العريقة وبعض من أتباعهم. وكانوا يعاملون هؤلاء الأتباع معاملة إنسانية سامية. وكان الطفل ينادي الحليف أو التابع باللغة المدنية الرقيقة الدارجة (أبوي).
في الأعياد وفي حفلات الزواج يخرج الرجال ويتجمعون في حلقة الزير. لباسهم ثياب بيضاء فضفاضة، يلوحون بالسيوف ومع أن لعبة الزير أقل جاذبية من لعبة المزمار إلا أنها أكثر أماناً فالقوم يتفننون في حركاتهم مع إيقاع الأيدي التي تصفق بحسب (الكَسْرة) أو (الدانة). ومع هذا فلم يعرف أن أحداً مس قبيلة وإن كان من حارة أخرى بسوء إلا أنه في المزمار ومع التصاعد يرتفع الدم إلى الرؤوس التي تطيش عن حلمها حيناً، وتخرج عن المعقول فترى الرجل مضرجاً بدمه بجانب النار، ولربما ظن البعض أنني أروي عن الكبار في هذا الشأن، ولكنني أؤكد أنني شاهدت الزير والمزمار والرفيحة وألعاباً أخرى وهي في ذروتها وقوتها، في الوادي وفي خيف الرواجح، وفي بحرة كان سيد جماعته الشريف كامل بن سعيد الراجحي (رحمه الله) وكنا معه نشهد الرفيحة وسواها. وكما تنمو الشجرة ثم تسقط الثمرة في أوج قوتها ونضجها، سقط كامل صريعاً. أخلاقه، حبه، وفاؤه، ذكرني ويذكرني دائماً بصديقنا ابن عيسى رحمه الله. كان يقابل أنداده من أهل الأحياء الأخرى ويكاد ينكفىء على أيديهم ليقبلها لا يفعل ذلك عن ضعف ولا رغبة في تزلف، ولكنه نُشّىء على هذا الضرب من الأخلاق لقد طوى شراعه وقضى وهو في الأربعين من عمره، وبكيته أنا وصديقي ابن جبل - رحمهما الله - لقد كان هذا الأخير معاذ سيداً في جماعته - أيضاً - نصد عنه من جهة فيقابلنا من جهة أخرى وترتفع أصواتنا عليه فيقابلها بابتسامة هادئة. وكنت أسأله عن الحكم الشرعي في قضية فيأتيني بالقول محكماً على المذاهب الأربعة. جلس إلى العلماء وأخذ عنهم وحفظ ودوَّن ولم تسعفنا زحمة الحياة للتدوين وهو الأصل في الأخذ عن العلماء.
أعود إلى (الزير) فلقد اجتمع أهل العنبرية وباب العوالي في مناسبة قبل أكثر من ثلاثين عاماً، وشاهدت كلي عابد يصيخ بكلتا أذنيه لكَسْرة رجل ضرير من أهل العنبرية وبجانبه رجل يضرب على الزير اسمه العم مستور (رحمهم الله جميعاً) ثم يذهب ابن عابد لضيفه ليجيبه بكَسْرة مماثلة على الفور، ويسمع الناس صوت الحادي في كل مكان!!
يا صديقي: لقد كان الحب يجمع الناس على مختلف مشاربهم في بلد الحب والأمان، أترى قد وارينا الثرى ذلك التسامح والحب والوداد هناك في الربوة؟؟ أم تراه تبخر في السماء وأضحى ذرات تائهة؟
اليوم يا صديقي يرفض أحدهم أن يلقي السلام على أخيه في الدين لأنه يخالفه الرأي في مسألة. ونسوا أن الإمام البخاري روى عن كبار المعتزلة مثل عمرو بن عبيد الذي قال فيه الخليفة المنصور: ((كلكم طالب صيد إلا عمرو بن عبيد)) وأن سيدنا علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - عندما سئل عن الخوارج: هل هم كفار؟ قال: ((هم من الكفار فروا))، ووصفهم بأنهم ((إخواننا بغوا علينا)). وإن الإمامين الجليلين ابن تيمية والسبكي اختلفا فلم يُكفّر أتباع كل منهم الفريق الآخر. ويختلف المسيحيون واليهود وغيرهم من أهل الملل الأخرى ولكنهم لا يوجهون سهامهم إلى صدور بعضهم البعض. ويظل الخلاف محصوراً تحت قبة المجلس وبين جدران مجالس الحوار. ولا يمتد إلى شؤون الحياة جميعها فتأكل ألسنته الأخضر واليابس على حد سواء.
هل نريد أن نتعلم من غيرنا أو يعلمنا غيرنا؟ إن في تراثنا الإسلامي والعربي البعيد منه والقريب، الحاضر منه والغابر، أمثلة حية لما يمكن أن يكون نبراساً لمن يحمل العصا. إنها عصا سوء الظن بالآخرين وعقائدهم، ويتأبطها تحت ذراعه عفواً إنه يقبضها بين أسنانه وتحت أنيابه وأضراسه ليهوي بها - زوراً وبهتاناً - على كل من يخالفه الرأي، أو يناقضه التوجه والقول.
إننا بحاجة إلى كثير من التروي والتفكير العميق البعيد عن التجهم والغلظة والقسوة والجفوة. نحن بحاجة إلى التعقل والرشد، وحسن الظن بالآخرين قبل أن نلقي التهم جزافاً، ونحكم على الآخرين تهوراً، متوهمين أننا وحدنا من يملك مفاتيح الصفح والغفران.
إن من يملك تلك المفاتيح هو رب العزة والجلال، وما منا إلا من يصيب ويخطىء. وصدق عالم المدينة المنورة أنس بن مالك - رحمه الله - عندما قال: ((كل منا يؤخذ منه ويرد إلا صاحب هذا القبر)) وكان يشير في أدب جم إلى ضريح سيد الرسل وخاتم الأنبياء رسول الله صلى الله عليه وسلم.
اللهم ارزق أمتك - أمة الدين الخاتم والوسط - أرزق قلوبهم الحب والوئام وجنبهم الزلل وطيش الأحلام. فلقد تكالبت الأمم عليهم كما تتكالب الأكلة على قصعتها - وهو ما أخبر به الهادي البشير - عليه صلوات الله وسلامه. ومع هذا فهم ينظرون إلى بعضهم شذراً، ويقف بعضهم لإخوانه في المعتقد ليردعهم بقسوة هي الأشد والأنكى عليهم من ضربة العدو المتربص بهم وكان الأولى أن يُحدّثهم في رفق وينصحهم في دعة ومحبة.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :746  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 129 من 482
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الجمعية النسائية الخيرية الأولى بجدة

أول جمعية سجلت بوزارة الشئون الاجتماعية، ظلت تعمل لأكثر من نصف قرن في العمل الخيري التطوعي،في مجالات رعاية الطفولة والأمومة، والرعاية الصحية، وتأهيل المرأة وغيرها من أوجه الخير.