شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
هُتَافٌ منْ باب السَّلام؟ (19)
كانت تجلس أمامه على الكرسي الخشبي العتيق. هذا ذكرى أبيك عندما أتى بي إلى هذه البلدة الطاهرة من قريتي الصغيرة في الفِقِرة نَظَرَتْ إلى الشُّعيرات السوداء وسط تلك الغابة الكثيفة من الشيب المتناثرة في أماكن متفرقة بين رأسه ووجهه، وكانت عيناها لا تفارق تلك الغلالة من الحزن التي تركت آثارها العميقة تحت عينيه حتى لم تكد تفرق بين سواد عينيه، وتلك السحابة السوداء التي تركت الوجه النضير نهباً للآلام والأحزان منذ طفولته المتعثرة، وحتى كهولته التي جعلت منه شيخاً في زمن الاستواء والقوة.
تركت مقعدها ثم عادت تحمل شيئاً في يديها، رأى حركة أرجلها المتأرجحة، ثم وقف وارتمى على قدميها - باكياً - ورفع نظره إلى الوجه الملائكي قائلاً: كان يفترض أن أحمل ((طبق)) العشاء لك فإذا أنت تتجشمين العناء وتحملينه إلى ابن يبحث عن الرضاء تحت أقدامك وما أجمله من بحث وما أكرمه من موضع، وما أعظمه من جهاد.
كانت إجابتها دموعاً صادقة، ونظرات نحو الأفق البعيد ورددت أصداء كلماتها الصادقة جدران المنزل وأبوابه ونوافذه: ((أنا مسامحتك)) من كل قلبي يا بني سوف أذهب مع الصباح لزيارة مسجد المصطفى صلى الله عليه وسلم والتمتع بأجواء الروضة الروحانية. أشفق عليها من حرارة النهار، وكاد يقول شيئاً فإذا هي تسبقه إلى القول: لا تحرمني من زيارة سيدنا رسول الله عليه صلوات الله وسلامه.
تطل عليه من فتحة الباب وهو منكب على هذه الأوراق يدون فيها ما يدون ويكتب فيها ما يكتب، وكثيراً ما التهمت نيران الحياة ما دون وكثيراً ما ضاقت نفسه بهذا الداء المزمن، وكثيراً ما سأل نفسه لماذا نكتب؟ وبعبارة أخرى لماذا نحترق؟ ومتى يؤذن الفجر بميلاد يوم الحب والوفاء والطمأنينة؟
لا تريد أن تشغله عما هو فيه ولكنها تمطره بكلمات الدعاء فإذا هو أشد الناس سعادة في هذا الكون، وأكثرهم حظوة.
شاهدته في وقت متأخر يفتح الباب برفق، إنه يعاني من ((القاتل الصامت))، وعندما يعود إلى فراشه يسمع وقع أقدامها تطرق الباب برفق لتسأله عن حاله؟؟ لم تتعلم ((والدته)) هذه العروبية ((القادمة من أعماق الصحراء ومن بين أثيلات النخيل في ((ريمة)) و((عرقوس)) و((أم ذيان)) لم تتعلم في مدرسة ولا تزين غرفتها بشهادة جامعية ولا تلوي لسانها بألفاظ غربية ولكنها تحمل نفساً تأدبت منذ نشأتها، وأخلاقاً حملتها معها من تحت الوسادة التي كانت تضع عنقها عليها في بيت أبيها وجدتها لأمها.
ليتك تعلمين يا أماه أنت وأنداد لك من جيل ذلك الماضي الذي يمتح من أخلاق ((الإسلام)) الفطري كم هو عظيم ذلك الإرث الإنساني الذي تحملنه في دواخلكن وكم هو رائع ذلك الوفاء الذي كان يلمسه أباؤنا منكن في الغيبة والحضور! وكم هو نادر ذلك القاموس من الكلمات الرقيقة والحنونة التي تسكبونها حباً وصفاء وشذى في آذان متعطشة ونفوس ظمأى، فقد اكتوى جيل ألماً وحرقة من ليل بهيم تبدلت فيه المثل والأخلاق وارتفعت من حوله أصوات تخال نفسها الأشجى والأجمل فإذا هي للأسف - الأكثر دمامة وقبحاً.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :565  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 122 من 482
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج