شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
هُتَافٌ منْ باب السَّلام؟ (17)
تحمل الفتى قدماه ليلج ((سويقة)) من باب المصري، رووا لنا أن المحمل المصري كان يحط رحاله هنا. على بابك يا سيدي كم وقف المحبون، وبين يدي حضرتك كم ذرفوا الدموع، أيها النور المشع في أرجاء هذا الكون لقد طال بي البعاد وطوحت بذاتي المنهكة الأيام، يسألونني: متى أعود؟ أقول لهم (بكرة)، ويأتي (بكرة) وبعد (بكرة)، ولا أزال نائياً عن مواطن الطهر والجلال، حاملاً ((مزودتي)) أجوب هذه الدنيا فلا أجد مثيلاً لساحة باب السلام، ولا شبيهاً لفرش الحجر، وصفة الأحباب، وحصوة الذاكرين، و((رستمية)) الأنقياء من المجاورين.
هذا باب المصري، وهذا حانوت العم ((عثمان أبو عوف)) لم يكن هناك في المدينة من لا يحب هذا الرجل، ويستأنس بحديثه، شاهدني - ذات يوم - وكان صديقاً حميماً لوالدي - رحمهما الله - وأنا أغادر المنزل بعد الإفطار مباشرة في شهر رمضان، فابتسم في وجهي قائلاً: عندي من العذر ما يجعلني أغادر ((البيت)) في هذا الوقت، فما هو عذرك يا بني؟ هو يتوجه إلى ((المناخة))، و((الفتى)) تثقل الهموم فؤاده فتنهب الأرض خطواته إلى ((الحارة)) و((الصيران)) فهناك من تعشقت أرواحهم جمال هذا الكون، فاستغرقهم ذلك الجمال الأبدي، فصفت منهم نفوس، وتهذب القول في ألسنتهم، واستقام منهم السلوك، ولم يحيدوا عن ((المنهل)) الذي أرشدتهم إليه بصائر مضيئة، وقادتهم إليه خطوات واثقة نهجت طريق السالكين ودروب المحبين.
بجانب - العم عثمان - يقع حانوت العم ((صالح دردوم)) وكان ابنه ((محمد)) يجلس في ذلك المكان، يبتسم في وجوه الناس من أعماق قلبه، عندما بدأت ((روحه)) تتفتح على ينبوع الحياة انطفأت جذوة الحياة فيه، فافتقده المكان الذي كان يزدهي به، وكان والده الأكثر حزناً على فقده، وكلما جمعني محفل بالعم ((صالح)) تبدى لي ذلك الحزن العميق من عينيه. وذات ليلة - هاتفني أخي عبد المحسن حليت مسلم، وروحه الشاعرة - دوماً - تشف عما في داخله، وصفاؤه جعله الوريث لشهامة ونبل والده - زينة أهل المدينة في قباء - الشيخ حليت بن مسلم - رحمه الله - يسري صوته الحزين عبر أسلاك الهاتف، يحمل إليّ خبر وفاة العم ((صالح)). وفي كل مرة ينعى إلى أبو الحسين رجلاً من رجالات البلد الطاهر أحس بأن الوجوه التي ألفنا رؤيتها في تلك البقعة المقدسة، قد اختفت، ومعها اختفى ذلك البهاء والشحن الذي كان ينبعث من أسواق المدينة، وحاراتها، وأشجار النخيل فيها.
في الجهة الأخرى من باب المصري يقع ((حانوت)) العم حسين نافع، خؤولته في آل ((أبو عوف)) وابن أخت القوم منهم. من هذه الحوانيت وغيرها تنبعث أصوات الريالات الفضة والجنيهات الذهب، وكما سكن الشعر دور المدينة منذ عصور سحيقة، فلقد استقرت في نفوس أهلها صفات الرقة والوداعة. يولد الطفل، يحملونه إلى المقام الطاهر عندما يبلغ ((الأربعين)) يوماً - وسمعنا من جيل مضى عبارة ((ابن الحجرة)) وإذا استقامت خطوات هذا الطفل زينوا رأسه بكوفية مقصبة تتدلى منها الجنيهات. وإذا كبر حملوه إلى العقيق، والعاقول، وسيدنا حمزة، وقربان، ليبصر الماء وهو ينساب في مجاريه. وإذا شب سمع نداء ندياً يرتفع من جوار القبة الطاهرة، ومن هنا تعشقت أرواح الأجيال في طيبة الجمال في كل شيء، يهمسون بالقول فإذا هو الشعر ويرفعون أصواتهم فإذا الكلام منهم كحد السيف القاطع. ذلك يا صديقي - شيء - من تاريخ أرويه، ونفحات من الأدب أسردها.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :624  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 120 من 482
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذ الدكتور سليمان بن عبد الرحمن الذييب

المتخصص في دراسة النقوش النبطية والآرامية، له 20 مؤلفاً في الآثار السعودية، 24 كتابا مترجماً، و7 مؤلفات بالانجليزية.