شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
هُتَافٌ منْ باب السَّلام؟ (16)
كأنني بالرجل الوديع المبتسم - في سوق العياشة - ينادي الغادي والرائح ليشتري شيئاً من ذلك الخبز المتميز الذي يدعونه في البلدة الطاهرة بـ((الشريك)) ويعرف في مدن أخرى مثل مكة شرفها الله - بـ((السحيرة)) يقول الصوت ((الشريكة... سته هلل... قرش ونصف)).
الأجيال الصاعدة قد يأخذها شيء من الدهشة إذا ما عرفت أن ((أقة)) اللحم كانت ببضع ريالات، وأن ((الشريكة)) المخرومة من وسطها ((المطرز وجهها بالسمسم لا يدفع في ثمنها أكثر من قرش وأن ((زبدية)) الفول ((المدمس)) تملأ من عند ((العم عامر)) في سوق ((الحراج)) القديم ببضعة قروش زهيدة، وكذلك تلقيمة ((الشاي))، وكان أهل السوق يأخذون هذه ((التلقيمة)) إلى ذلك المكان الذي يؤمه الناس ليستمتعوا ببرودة الجو المنبعث من الأرض ((المرشوشة)) بالماء، وكذلك كانت ((المقاعد)) والقياع في منازل البلدة الطاهرة.
عرف ذلك المكان بمقهى ((الشبراويشي))، واسمه الصحيح إسماعيل شبراويشي، خاله عبد الله شبراويشي - رحمهم الله - من أهل البلد الحرام، وكان ((إسماعيل)) واحداً من الرجال الذين لم تقع عيني - بعد - على من يماثلهم أناقة، وظرفاً، كان شيخاً لمهنة ((الجزارة)) في المدينة، وأجزم أنه كان يقف على باب حانوته مبتسماً، يقطع ((اللحم)) في أناقة، لا يصيب ثوبه المصنوع من ((اللاس)) شيء من دم الذبيحة.
رأيته يأتي في سكون الليل إلى ((العنبرية))، بجوار ((دكة الترجمان))، ينتحي بوالدي - رحمه الله - جانباً، ويهمس في أذنه ببضع كلمات، وكان الوالد لا يستطيع حبس الدمع، ولكنني أتحسس انطلاق الدمع من جفونه، أتمنى لو كنت قادراً لأسأله - حينئذ - لماذا تبكي يا أبتاه؟ ولكنني أنتمي إلى جيل آخر، فرفع النظر إلى الأب نعده من سوء الأدب، فليقل أخواني وأبنائي من جيل اليوم ما يشاؤون، ولهم الحق في ذلك، أما نحن فهذا الذي نشئنا عليه وكفى، أعود إلى المشهد، أسمعه يتمتم - رحمك الله - يا علي -، وتنبهت لقد مات واحد من الرجال المطاليق - علي كاموخ - هذا لقبه، أما هو فينتمي إلى أسرة ((المناع)) في المدينة، ابن عمه عبد الله مناع، يقع حانوته غير بعيد من حانوت العم حجازي - رحمه الله - ومركاز الشيخ السمكري الذي كان عمدة لزقاق الطيار، كان ((الكاموخ)) ودرويش سعد، وأحمد محرم، وحسن سفر، وعباس بلاجي، رجالاً وأبطالاً وأهل نبل وشهامة في المناخة، وكان ((الكاموخ)) الأقرب إلى نفس والدي... أعود إلى الرجل الأنيق و((الذوق)) إسماعيل شبراويشي كان كالابن لواحد من أهل مكة المجاورين وهو الشيخ محمد سلطان، هو والشيخ حسن موسى - صنوان - رحمهما الله - تضيق الدنيا بالرجل الكريم، يسمع بذلك الشيخ عمر بوقري يقطع الطريق من مكة إلى المدينة، شهامته ونبله تحمله على أن يسدد ديون ابن أرومته - محمد سلطان - ثم يطلب منه - أن يرافقه إلى الجوار الكريم في مكة، لم ينس ((إسماعيل)) فضل ((الشيخ)) سلطان عليه، ويسلك هو الآخر الدرب إلى مهبط الوحي، وفي دار البوقري يقول الشبراويشي وعلى مسمع من الناس: حتى هذا الثوب الذي ألبسه، أدين فيه لفضل الله بداية، ثم لخير ((محمد سلطان)) يتعانق الرجلان وتطيب النفوس، صنيع البوقري الذي سمعته موثقاً عن والدي - أسكنه الله فسيح جناته - ليس ببعيد عن صنيع واحد من الأخوين صدقة وسراج كعكي، فلقد سمعا بوفاة ابن عمهما في المدينة الشيخ عبد المعين كعكي - والد العم بادي، يسرع أحدهما الخطى إلى البلدة الطاهرة ليسدد ديناً وقع فيه الرجل الكريم والشجاع، كأني بوالدي - يقول: أبحث عن رجل في أناقة ووجاهة وظرف - عبد المعين كعكي - رحمه الله - فلا أكاد أجد من يشابهه في شيء من ذلك. وسمعت والدي يقول لحفيده - حمزة: لو كان جدك حياً لأتى بالخبز إلى سيارتي. ويعرّف والده بالمودة التي تجمع بين الرجلين، فيحث الحفيد الخطى إلى ((قباء)) وقبل أن ينطق الشاب بكلمات الاعتذار، كأنني بلحية الرجل المحب لأبناء أصدقائه، وأحفادهم، وقد تبللت بالدموع، ثم يربت على كتف الحفيد المهذب ويقول له في شيء من الأسى، كان لا يطيب لجدك ليله ونهاره حتى يطمئن عليّ.
ترى - يا صديقي - ماذا تقول لبعض قوم في زماننا - يسددون السهام الجارحة إلى أصدقائهم في غيبتهم، ثم يعانقونهم على مشهد من الناس!!
ترى ماذا أنت صانع بأناس يحملهم هوى النفوس على أن يركبوا مركباً صعباً مع من يأتمنونهم على أعز وأنفس ما في دنياهم، وإذا كان تلون الوجوه، وتذبذب المواقف لا يليق بسلوك المسلم، فماذا أنت قائل عن ما يمكن أن يدخل في باب الغدر، وسوء الطوية؟، ثم ألا تجد لي شيئاً أو قليلاً من العذر لأسرد على مسمعك شيئاً من سيرة أولئك القوم الذين طواهم الثرى، وضمتهم اللحود، بعد أن كانوا بدوراً يضيئون بسلوكهم دروب الحياة المعتمة؟!
 
طباعة

تعليق

 القراءات :984  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 119 من 482
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور محمد خير البقاعي

رفد المكتبة العربية بخمسة عشر مؤلفاً في النقد والفكر والترجمة.