شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
هُتَافٌ منْ باب السَّلام؟ (12)
يحمل الفتى كتبه كل صباح من دار أهله في السَّيْح إلى الموضع الذي انتقل إليه - فجأة - إنها المدرسة يا بني، يذكر بكاءه ونحيبه مع مطلع كل يوم، فلقد تعود أن يقضي ذلك الصباح متنقلاً بين ((الصفة)) و((الروشان))، لم يعرف لماذا كان يصر والده على ألا يتأخر الابن يوماً واحداً عن الذهاب إلى مدرسة في حوش ((منصور)) تُدْعى ((المحمديّة))؟ ولكنه اكتشف السر - فيما بعد - عندما خاطبته ((أمه)) قائلة: لقد اكتفى أبوك في صغره بالذهاب إلى ((الكتاب)) فَتَحَ الحَرْف، وحفظ شيئاً من سُور القرآن. ومسحتْ دمعة انحدرتْ من عينيها - حاولت أن تخفيها عنه - وقالت له بشيء من الحزن: إن أباك يريد أن يراك ((رجّال)) أما سمعتَ عن ولَد ((عُبيد)) - تَقْصِد معالي الدكتور رضا محمد سعيد عبيد، - كيف أصبحت - خالة (...) - تفتخر به عندما يجتمع نساء الحي في حوش ((عميرة)) ويضربن بالدُفوف في وقار وأدب في ساحة بيت الشيخ ((عُمر)) كُل بيت في المدينة كان يعرف الإنشاد، الأصوات ندية ترتفع في آفاق سماء الرحمة، وأهل المجلس ينتقلون من حي إلى آخر، يا صديقي الذي كان يترنَّم بصوته الشجي في ((عروة)) و((الأخوين)) و((المصرع))، أتعلم أن القلوب توطَّنها الحزن؟ لقد شاخت، كأن شيئاً من المسرَّة لم يتسلل إليها - في زمن الحب والألفة والأنس لقد اغتالت الشِّدة والقسوة الطائر المغرد في ((الطُّوف))، وأضحى الليل من دون ((شجن)) وضل شعاع الشمس طريقَهُ إلى الكوة التي كان يتسلل منها إلى مجلس القوم، أتعلم - يا صديقي - أن المجلس خلا من رُوَّاده، فقفلوا نوافذه، وأوصدوا أبوابه، ولم تعد الوجوه المشرقة تطل من ثنايا ((المراكيز)) في ((المناخة))؟ لقد شكا ((المركاز)) وحدته، وشكوتُ إليه غُرْبتي، لقد نعيتُ بين أرجله قيمَ الوفاء ومعاني الحب الطاهر، وأحاديث الودِّ الصَّادق عند سَفْح ((أُحد)) في ((حِلَّة المناخة))... عند هدير المياه في مَغَانِي ((العيون)) وأثيلات النَّخيل في بساتين قباءِ.
لم يكن الفتى يشارك أقرانه لهوهم البريء وعبثهم الطُّفولي الجميل، ولكن كثيراً ما طلب من والدته أن تأذن له فيخرج إلى السَّاحة الممتدة بين حوش ((عميرة)) وزقاق ((سيد أحمد)) فيشاهد لعبة ((العُصْفُر)) و((اللِّيري)) ولكن نظرَه لا يفارق مرأى شجرة ((النبق)) المغروسة في ساحة المسجد، وكانت كلما هبت نسمة هواء على أغصان تلك الشجرة في اليوم الممطر، يحس أن قلبه يخفق مع هذه النسمات، بل إنه ليشعر بأن هذا القلب يكاد يفارق مكانه، ترى أي شيء كان هذا النسيم يحمل في ثناياه هل هو الإنذار بحياة لاهثة، ومسيرة ظامئة في دروب هذه الحياة؟ أمْ إنه إحساس خفي بأنه سيكون أقل - أقرانه - حظاً في الاستمتاع بمباهج هذه الحياة؟ وانغرس في داخله هذا الشعور، حتى سمع والده - ذات ليلة - يخاطب سيدة البيت قائلاً ((يا...،...)) يكفي هذا الولد أنه قليل الحظ يحتمي بالمجلس ((الجُوَّاني)) يتمددُ في هدوء ويقضي الليل يذرف الدمع، وأصبح الدمع اللغة التي يلجأ إليها كلما حملته ظروف الحياة على أن يرى أو يسمع ما لا يحب رؤيته أو سماعه، وعندما رأته مُدلّلته الصغيرة وهو يزيح الدمع بأطراف أصابعه، صرفها عن سؤالها المحير بأنه تَعَبُ القراءةِ، ثم ابتسم في وجهها قائلاً: كُوني صلبةً في مواجهة أحداث الحياة يا بُنيَّتي،... تذكر حديث والدته له: لم أكن أتوقع أن تعيش إلى اليوم؟ لقد اعتراك شيء من السقم في صغرك، وأنت اليوم في كهولتك أشد حاجة إلى العطف والحنان، ولم تعلم أنها القلب الوحيد الذي يبثه شكواه، أي شكوى - يا أماه - تريدين أن أروي فصولها على مسمعك؟ وأي حزن تجرعت مرارته وذقت وصبه؟ لقد كان الأقسى يا سيدتي جحود بعض رفقاء الدرب، وأصدقاء الأمس القريب لقد أعطيتهم من نفسي الكثير فإذا هم يشيحون بوجوههم ويتركونني أسيراً لهذه الحرقة وذلك الألم الممض.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :586  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 115 من 482
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذة بديعة كشغري

الأديبة والكاتبة والشاعرة.