شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
هُتَافٌ منْ باب السَّلام؟ (10)
المرأة المثال ((يا بني)) هي التي حدثتني كيف أنها كانت بعد انقضاء أسبوع على وضع حملها، تطوي فراشها بيديها لتستيقظ مع كل فجر لتوقد النار في (الوجَاق) ثم تضع الإناء المُخصَّص لصنع القهوة العربي (الدَّلة) وبالأصح فإنها تغرزه داخل أكوام الرماد الذي يغطي وجهَ حبَّات الجمر الملتهبة، وتترك كل ذلك على حاله، عيناها مغروزتان في روشان المجلس تنتظر بكثير من التلهُّف عودة سيد الدار من مصلاَّه حتى إذا ما بدأت خطواته تأخذ طريقها إلى سُلَّم الدار الحجري، أسرعتْ إلى ذلك المكان الصغير الذي لا يكاد يتسع لأكثر من (الوجاق) و(الكانُون) وقطع متناثرة من آنية الصيني والشاي.
تُسْرعُ - يا أحمد - سيِّدةُ الدار إلى ذلك المكان، فتُمسك بـ ((الدَّلة)) وتزيلُ عنها ما لحق بها من ذرَّات الرَّماد، ثم تضعها - بشعورُ المحبَّة والرِّضا - مع شيء من التَّمر أمام والد أبنائها، وكان ((التَّمر)) يا بني طعام الناس في الرخاء والشدة، ولقد سمعت جَدّك الذي أدرك - سفَربَلك - في حقبة - فَخْري باشا - يَرْوي - رحمه الله -: يرسلني والدي من ((السَّيْح)) إلى باب ((العنبرية)) حيث كانت تقوم ((التِّكية)) أدفعُ للجندي ((مجيدياً)) فيعطيني ((قرص الخبز)) ويُوزِّعُه الجَدُّ الأكبر على أبنائه السِّتة ووالدتهم. أما بقية الوجبات فحبَّات من التمر مع كأس من الماء، ثم كان الخروج إلى مكّة بدلاً من ((التَّهجير)) إلى الشام، وكان الفضل في هذا - بعد الله - لوالدة الشيخ أحمد نور - رحمه الله (الخؤولة) واحدة في بيت علي سليمان - رجل حوش عميرة -، وهو والد عباس وعبد الله وعلي وعبد العزيز - رحمهم الله ومحمد سعيد وصالح أطال الله بقاءهم -، ولقد كانت هذه السيدة تجيد اللغة التركية فخاطبت فخري باشا وشرحت له ظروف العائلة فسمح لهم بالسفر إلى ((مكة))، وهناك نزلوا في ((شِعْب عامر)). صنيع أهل الشِّعْب خلال هذه المأساة يُماثل صنيع أهل حلب، كلاهما أكرم جيران المصطفى صلى الله عليه وسلم، وقد روى لي جدُّك - يا بني: أن رجلاً من آل ظافر - وإن لم تخني الذاكرة اسمه غازي - يركب الفرسَ حتى إذا ما رآني - لم يزل جَدُّك - عن ذاك - في سِنّ الطُفولة - نزل من فوق الدَّابة وحملني على ظهرها - تعبيراً عن المحبة للقادمين من المدينة المحبوبة.
لقد أدركت يا بني رجلين كريمين من رجالات الشِّعْب في تلك الحقبة: الشيخ أحمد غَبْرة - رحمه الله - والد محمد وإبراهيم وخليل وأخواتهم - ولآل الزقزوق خؤولة في هذه الأسرة المعروفة - ولعل شاعرنا الرقيق مصطفى زقزوق يُحدِّثنا عن ذلك وغيره -، وكان الشيخ ((الغَبْرة)) صديقاً لوالدي - رحمه الله - أما الرجل الآخر فهو الشيخ العارفة - عبد الله بن ظافر -، وكان على صلة برجل الفضل في البلد الحرام - الشيخ عبد الله بَصْنوي - رحمه الله - ولم أدْرِك الشريف عبد الله بن مسعود، فلقد كان رجلاً من رجالات هذا الحي، وكلا الشِّعْبين - يا بني - عزيز على نفس جدِّك، فله من الأحباب فيه الشيخ محمد سَفر - رجل الفضل والمعروف والإحسان - أسكنه الله فسيح جناته، وكنت أزوره مع المرحوم البصنوي في منزله العامر - بشعْب علي - حيث مولد سيد الخلق - عليه صلوات الله وسلامه - كما كان الشيخ صديق دمنهوري - رحمه الله - قريباً إلى نفس جدك، كان يمشي متعمِّماً - في وجاهة - بالغباني الأصْفَر - من منزل آل الدبور في شارع العينية إلى مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكنت أسير بجانب والدي، فإذا بالرجلين يتعانقان، وتخرج الكلمات الصادقة من الشفاه في وقت واحد - أنا أحبك في الله - يا فُلان -.
وإذا ما خَطوْتَ - يا بني - خطوات قليلة عن الشِّعْب كانت منازل القُشاشية بـ ((رَوَاشينها)) المتقنة الصنع تناديك في حب وكرم، وهناك في الصَّفَا - كان يقوم منزل الرجل الذي أحَبَّه الناس في كل بقعة، في كل موضع، في كل حي، وهو الفريق طه حُصيفان - يرحمه الله - وكان إذا قدم الصَّيف والزائر من ديار الحبيب - صلى الله عليه وسلم - وجدَ دار آل ((الحُصيفان)) مفتوحة له - وكان يا بُني - جدّكَ واحداً من صفوة الأحباب لهذا الرجل الذي ترك ذُريةً صالحَةَ أسَّست لها في قُلوبِ الناس منازل من الحب والعرفان.
تسألني - يا أبتَاه أيها الصالح وكل له من اسمه نصيب -، ماذا قالت سيِّدة الدَّار - في المدينة - عندما أتاها الناعي يخبرها برحيل سيد الدار، أقول لك... وفي النفس أسىً وحسرة، لقد قالت هذه العبارة التي نُحتت كلماتُها من فصاحةِ حَرْب وبلاغتها: ((طاحَ الجمل)). وفي كل مرة تجمعني الأيام بك، يحلو لك أن تسمع هذه الكلمات، وليس بغريب أن تُطْربكَ الفصحى، ويهتز الوجدان - مِنْك - لسماعها، فأنتم غَرْس الوَادي، ونَبْت الشِّعْب حيث شهدت السيدة آمنة بنت وهب، انبثاقة النور التي بدَّدت ظلام هذا الكون وما زال هذا النور يَسْري في أرجاء الدنيا ثم يعود للشِّعْب ثانية، فهناك المطلعُ والمَوْلِدُ.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :690  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 113 من 482
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الأعمال الكاملة للأديب الأستاذ عزيز ضياء

[الجزء الثاني - النثر - حصاد الأيام: 2005]

الأربعون

[( شعر ): 2000]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج