شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
هُتَافٌ منْ باب السَّلام؟ (9)
يستيقظ الرجل من نومه بعد أن ألقى ذلك الجسد المنهك على الأرض في ((حلة)) المناخة، وبعد يوم طويل في المعاناة قضاه في جمع حفنة ((من القروش)) لقاء حمله في عربة ((الكرو)) لشيء من متاع الناس في أحياء المدينة. يسكب الماء على وجهه من ذلك الإبريق الذي كان يصنعه أرباب المهنة في مكان غير بعيد عن سوق ((التمارة))، يتوضأ من ذلك الماء الذي أصابه طل من سماء الأرض المباركة. ثم يصلي ركعتي الفجر على (حصير) يخصصه - أبناء الحارة - للجلوس والوقاية من حرارة الأرض، و(الحصير) رمز في حياة القوم التي هي أقرب إلى الزهد والكفاف منها إلى أي شيء آخر. ينظر إلى (رفاقته) يبتسم في وجوههم ويمازحهم في براءة، ثم يحمل عصاه في يده، فهو على موعد - صباح كل يوم - مع رجل من رجالات ((السوق)). يقطع الطريق بين ((الحلة)) وباب المصري، هذا حانوت لأحمد إسماعيل، وثان لعبد المحسن رشوان، وآخر لعبد القادر الشعاب وصديقه البري، وكانت هذه الحوانيت وغيرها تقوم على الجانب الأيمن للقادم من المناخة لشارع ((العينية))، ثم يسلك ذلك الشارع المتوسط في مساحته - حيث كان يقوم مسجد يحمل اسم السيدة فاطمة - رضي الله عنها - ويصل هذا الشارع بين العينية من جهة وسوق ((الحبابة)) و((باب المصري)) من جهة أخرى، يتلفت ((صاحبنا)) في شيء من البهجة للرجال الذين كانت تقوم حوانيتهم على طرفي هذا الشارع، هذا - العم - عبد الله مناع يقدم الحليب البقري الساخن وزبادي اللبن لرواد مكانه، وهذا العم ((يوسف صيادة)) يقف أمام حانوته، وقد شد الحزام في وسطه، وأمسك بـ (الشوت) واتكأ على طرفها الأعلى، وهذا شيء يدخل في باب ((يعسبة)) أهل الشهامة والمروءة - في حقبة مضت وولت مع أهلها.
لا يمر رجل إلا ويود الجلوس إلى أبي - محمد -، وكان العم يوسف - رحمه الله - لا يضيق بالناس فعذوبة لسانه وسخاء يده تحمل الآخرين على احترامه وتقديره.
يصل - صاحبنا - إلى الموقع الذي يفصل بين سوق ((العياشة)) وباب ((المصري))، يسمع الرجل الصالح يناديه - مداعباً - على بعد ((يا أبا...)) يسرع صاحبنا فأبناء الحارة كانوا يجيبون النداء، ولا يتأخرون عن ((الفزعة)) يمد يده في أدب ويأخذ ((تلقيمة)) الشاي من الرجل الكبير، ثم يدخل إلى مقهى ((محمد سلطان))، ينتظر دوره بالقرب من ((المنصة)) الخاصة بصنع الشاي، يتكىء في طمأنينة على الجدار المبلل بشيء من الرطوبة، حتى إذا ما أتى دوره نادى عليه صاحب الشأن وأعطاه ((براد)) الشاي، يحس بنكهة النعناع (المديني) التي إذا ما تسللت إلى أنف الإنسان بعثت فيه شيئاً من حيوية الحياة وزخمها بل وجمالها، وكان الناس يرون الجمال في كل شيء قد أتقنت صنعته، وازدان مظهره، وحلا مذاقه.
يصل - صاحبنا - إلى حانوت الرجل الصالح، يسكب قليلاً من الشاي في واحد من الأقداح، ثم يعيده ثانية إلى ((البراد))، ويبدأ في تذويب حبات السكر وبالمقدار الذي يتلاءم مع حاجة الرجل الكبير الذي يحظى بتقدير الناس في السوق، يشربان الشاي - سوية - وربما تحدثا في شيء من شجون الدنيا. يرفع صاحبنا بصره على السماء، فقرص الشمس هو ساعته ودليله، ينصرف من جلسته هذه حاملاً عصاه تحت ذراعه، يتوجه - ثانية - إلى حلقة حديدية صغيرة في الأرض، يداعبه صديقه - مساعد ((كردش)) بلغة أهل الحلة، يودع جماعته كل صباح ويستقبلهم مع غروب الشمس، وكأنه قد نصب - قيماً - عليهم، ((كردش)) ولد الحارة، الذي لا يقرأ ولا يكتب، وجدوه في قهوة ((الفار)) في صباح يوم أغر، متمدداً على حصيرته رافعاً سبابته بالشهادة، وترك الناس - حيارى يتحدثون عن الخاتمة الحسنة لكبير الحارة الذي أضحى في أخريات أيامه، لا يفارق - حصوة المسجد، يدخل المسجد ليؤدي ((الفرض)) من باب الرحمة ويخرج من باب السلام.
تمضي الأيام ولا تتغير عادة الرجل الذي تنحصرُ حركتهُ صباح كل يوم بين الحلة وباب المصري. وجاء يوم خرج فيه صاحبنا إلى السوق - كعادته - ولكن الرجل الصالح لم يناده بذلك اللقب الذي اعتاد أن يسمعه كل من يلج السوق أو يخرج منه. اقترب ((ابن الحارة)) من الرّجل ذي اللحية البيضاء والوجه الإيماني المستدير، وبصوت فيه شيء من الحزن جاء السؤال منه مجلجلاً: هل أنت غاضب مني يا عَمُّ؟، ويرد الرجل في هدوء: لا لا بُنيَّ ولكنني - اليوم - قد رُزقتُ بمولود في جَبْهته علامة كتلك العلامة التي أصبحت تحمل لقبها، وآليت - على نَفْسِي - ألاَّ أُناديكَ اللَّقبْ، وامتدت مع الكلمات يدٌ حانيةٌ ترْبتُ على كتف ولدِ الحارة الذي افتقد عزيزاً عليه، فلقد كان يحسُّ في صَوْت الرجل الكبير حناناً وعطفاً، ولكن سلوك الأدب الذي فُطر عليه أهل الجوار - حَمَلَ رجل السوق على النظر لابن الحارة نَظْرَة الأبوة وما أجْمَلَها من نظرة يا صديقي.
واختفى ولدُ الحارة في زحمة الحياة، وتوارى عن أنظار - رفاقته - من أهل الحلَّة، وافتقدته رحبة باب المصري، ولم يُرَ إلا في اليوم الذي حملوا الرجل الصالح إلى - مثواه الأخير - في ضُحى يومٍ أغرٍ يتذكرهُ - العبد الفقير إلى الله - ويزداد حنينُه - كل يوم - للأيام الخوالي التي قضاها في كثيرٍ منْ الحبُورِ بَيْن المناخة وباب المصري.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :596  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 112 من 482
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاثنينية - إصدار خاص بمناسبة مرور 25 عاماً على تأسيسها

[الجزء الخامس - لقاءات صحفية مع مؤسس الاثنينية: 2007]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج