شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
هُتَافٌ منْ باب السَّلام؟ (8)
لا يأخذنك الظن - يا بني - في أن أباك يرسم صورة أسطورية عن المرأة المثال (والدته) في حياته، بل هي الحقيقة التي قد ينظر الآخرون إليها برؤية تغاير الرؤية التي أحملها في داخلي، وأحاول - ما استطعت - التشبث بها قبل أن تفلت تفاصيلها من الذاكرة التي وهنت، فهذا خريف العمر، وسن المهلكة وحقبة يرجو العبد الفقير إلى الله من مولاه أن تكون خيراً مما سبق، وأحسن مما تولى وانصرم.
تدخل عليه في صومعته حيث يقيم فهي تعرف أنه اختار الوحدة سبيلاً ومنهجاً له في هذه الحياة، يحس بخطواتها وهي تسعى إليه، يرفع نظره إليها، هو لا يزال ذلك الطفل الذي طالما ارتمى في أحضانها باكياً ومنتحباً من قسوة الحياة، وإنه في حاضره أشد حاجة إلى حنانها، فلقد اشتعل الرأس منه بالشيب، ولقد كان من قبل - يا بني - يحصي الشعيرات البيضاء التي تختفي في حياء بين غابة كثيفة سوداء ويدفعه زهو الحياة وشيء من رعونة الشباب للتباهي والتفاخر بها.
رمت - بنفسها - فوق ذلك الكرسي الخشبي العتيق، نظر إليها وهي متحجبة، وتذكر أنه طيلة ما يقرب من أربعة عقود من الزمن وربما تزيد على ذلك قليلاً - أنه طيلة هذا الزمن الذي قضته في عبادة ربها وخدمة سيد الدار وتربية أبنائها، لم يتحرك هذا الحجاب من فوق رأسها، وكان إذا دخل عليها في مجلسها - على غفلة - سعت لتغطية ما تبدي من شعر رأسها، وأنها في أشد الأوقات - تعباً - لا تتمدد على فراش، ولا تتكىء على وسادة حتى وإن كان الذين يجلسون بين يديها هم ممن حملت، وأرضعت وربت، وهذا سر من أسرار إعجاب أبيك بالمرأة المثال.
تبسَّمَ في وجهها وهي غارقة في التأمل، طلب منها الدعاء له، نظرت - بعينيها - إلى الأفق البعيد، ثم نطقت بكلمات معدودة: ((الله يُريح خاطرك!))، تذكَّر فجأة والده الذي رحل عن دنياهم والذي حدثه أن والدته قبل رحيلها دَعَتْ له بمثل هذه الكلمات الصادقة من الدعاء، وعَرِفَ أن المرأة المثال في حياته تعرف مُعاناته التي يحجبها عن الآخرين ويواريها خلف هذا السرور المصطنع والبهجة الكاذبة.
يسود شيء من الصمت الحزين حتى ليبدو المكان الذي يجمعهما أصغر ما في هذا الوجود، وتأتي الكلماتُ منها لتكْسرَ حِدَّة هذا الصمت: ((مين زيَّك يا ولدي؟؟)) لهجة مدنيةٌ وعبارة متداولة بين أهْلِ الأرض الغَزِلة والعاشقة، أعادتْ على مسمعه حكايات الطفولة، فأرهف السمع لحديثها: ((أصابتك الحصْبة أنت وأخواتك، كان الوقت قائظاً ووالدُكَ نائياً عن المدينة يبحث عن لقمة العيش الحلال، أسبوعان لا أعرف فيهما الطريق على المطبخ، خالاتك عبَّاسية وسعيدة من جيران زُقاق ((سيد أحمد)) يدخلان كل يوم عليَّ بالطعام جيرة حلوة ولَّت مع زمنها جسمك لم تتضح منه حُمْرةُ داء الحَصْبة، وقضيْتَ أياماً لا تعرف عن الدنيا شيئاً، فجأة يدخلَ جدُّك - [والدُها] علينا في - المقعد -، يُذْهلُه مرآك ويهمس في أُذني: من الضروري أن أخبر أباه، ثم يخرج مسرعاً ويعود بعد قليل يحمل دواءً من العطار، يُحرِّك اللمبة التي كانت الشَّاهد الوحيد بضيائها على الوحدة والألم والشِّدة، ويضعها بالقرب منك، أُحضر له إناءً ليضع فيه المَغَر، عُشْبٌ معروف ويُدْهنُ به جسْمك الذي أوهنه الدَّاءُ، يقفل الباب خلفه، نتركه طوال الليل على - الحبْل - لا نخافَ شيئاً - بحمد الله -، كانت الوحدة تُمزِّق داخلي، وتتركني نهباً للمخاوف من المجهول، وقضيت الليلة حتى مطلع الفجر ألمس مِعْصَمك بين الحين والآخر خشيةَ من أنك قد فارقت هذه الدنيا، وعندما غطَّت عيني في النوم، سمعت صوتك يأتيني كالطَّيف، ((أريد ماءً!))، نظرت إلى جسدك فإذا هو مَلِيءٌ بالحبوب - وكانت هذه علامة الشفاء - بإذن الله - من داء الحصبة، نظرتُ إلى مئذنة مسجد سيِّدنا عمر - رضي الله عنه - وكانت شجرة النَّبق تُغطي ساحة المسجد بأوراقها المخضرة -، توضأتُ وصليتُ ركعتين حمداً لله - على خروجك إلى هذه الدنيا - ثانيةً)).
لم ينس الفتى بعد ذلك صنيع جدِّه لأمه وشفقته عليه، وتقدير سيد الدار لمواقفه النبيلة، وفي اليوم الذي حملوا جثمان جده على أكتافهم من موطن ((الحرَّة)) رأى والده وهو يذرف الدموع، ثم يقول وهو يضع الآلةَ الحَدْبَاء على كتفه. على العزِّ يا أبا سُليمان. رحم الله الرجلين، وبقيت يا صاحبة القلب الطيب، واللِّسان العفيف مِرآةُ أنظرُ من خلالها إلى ذلك العالم المليء بالمشاهد والصور العظيمة التي قلما أن يجودَ بها الزمن، أما أنت - يا بُني - فاعلم أنك قد خُلقت لزمان غير زماننا، ولكن هذا لا يعني نسيانك لهذا التراث الذي حاولت أن أضعه من خلال هذه الكلمات بين يديك، فلعلك تجد فيه صورة صادقة وأصيلة من صور ذلك الماضي الجميل الذي عايشه والدك ويتذكره اليوم بعد أن أوهنتْ حوادثُ اللَّيالي ما كان منه قوياً، والبقاء والديمومة لربِّ هذا الكون وخالقه وحده.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :650  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 111 من 482
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج