شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
هُتَافٌ منْ باب السَّلام؟ (7)
وقَدْ تَعْجَبُ - يا بني - كيف نثَر والدك على الطَّرْس ما انحبس عن أعين الآخرين من عواطفه، وما انكتم عنهم من زفَراته، وما اختلج - بعيداً - عنهم من أحاسيسه. والكلمة في حضورها كالدَّم عند سيلانه، كلاهما إذا نُثِرَ وتفرَّق صَعُبَ جمعه واستحالت رؤيته على النَّسق الذي كان عليه، ولتعلم - يا بني - أن لهذا المسلك أسبابه ودواعيه، فالقوم الذين عرفنا وعايشنا في أرض النبوة كانوا على قدرٍ كبير من سماحة الخُلُق، وسعة الصدر، وإنك لواجد في ثنايا الشعر الذي أبدعوا، والنثر الذي كتبوا والإنشاد الذي به في دُجى الليل ترنَّموا، إنك - واجدٌ - يا بني - في ذلك كله ما يُومىءُ إلى تلك الشمائل، ويشير إلى ذلك الأفق، وتلك الذروة التي ارتقوا إليها بأخلاق سامية، ونفوس رقيقة، وأيادٍ تتصافح في نقاءٍ وقلوب لا تتلاقى على ضغينة.
لم تطل الطريق بالفتى كما طالت به ظُهْر ذلك اليوم، هذا مسجد ((الغَمَامَة))، وهذه بقايا من السوق القديم الذي ترسَّخَتْ معالمه في النفس، وتغلغلتْ رسومُهُ في مساربها العميقة، وهذه البوابة التي دأب على الدخول منها ((للحرم))، إنَّه (باب جبريل)، لم يبق من أهله إلا (حسن برقاوي)، تذكَّر في تلك اللحظة العم (حسب الله) وهو يدقُّ مِسْماراً في هذا الكرسي، أو يصلح بالمطرقة اعوجاج أبواب غرف ((الرُّسْتمية))، وأين عبد الرحيم (سَحْلَبجي)، وهو ينزح الماء من عين ((الأغوات))، ثم يسكُبه في البرحة التي كان يطل عليها منزل شيخ الأغوات (عبد السَّلام)، والمعلم (طَيْفُور) وهو يتحدَّثُ كيف كان يحمل التراب صغيراً مع المعلم الكبير (عيدبَنَّا)، وكانت عصا المعلم تصل إليه لتذكِّرُه بأن شيخ ((الصَّنْعة)) يراقبُ حَرَكَته صُعوداً ونزولاً من دَرَج الدار، أما العَم (حسن البيشي) فقد كان لآخر أيام حياته - يذهب إلى ((المناخة)) ليبتاع السَّمن البرِّي، ليضعَهُ فَوْقَ طبق ((الفول)) من حانوت العم ((فَرْغلي))، ثم يتمدد في ساحة الرَّستمية ليروي أحاديثه وذكرياته عن الشامية في مكة، وأعمامه فيها من بَيْتَ المحجوب.
انقضت صلاة الظهر، أحسَّ في تلك اللحظات بشيء من التعب، سلك الدرب إلى باب العوالي، طرق باب صديقه ((الزَّين))، أجابه صوت بأنه غير موجود!! وسأل - نفسه - متى يستريح صديقهُ من هذا التّجوال في أماكن متباعدة من البلدة الطاهرة؟؟ واليوم - يا صَديقي - أضحى النزوح إلى داخل النفس، ولم يعد يروي الظمأ ذلك الماء الذي كان يسكبه الرجل الذي كان يحمل ((جَحْلَتَهُ)) ويسقي بها المُصلِّين عند باب السيدة فاطمة - رضي الله عنها - ماء تفوح منه رائحة ((الكَادِي))، وثياب تتضمَّخ برائحة ((العود)) المشتعل في مجْمرة ((الشريف حسن طاهر)) - رحمه الله -.
لم يَطِبْ له المقام في دار ((الزَّيْن)) - كعادته - قَطَع الطريق بين باب العَوَالي وسوق ((الخضار)) في شيء من الترقب والحذر، وعندما تجاوز ((السُّوق)) أطلَّ رجل يعرفه من أهل ((الجِلَّة))، هذا ((محمد سلاَّية)) رجل طيِّب وظريف، سأله عن أحوال والده، حاول أن يُنْهي الحديثَ فلقد أحسَّ برعشةٍ تَسْري في جسدِهِ، أحس أن أقدامه لا تَقْوى على حَمْلِهِ، تذكَّر ابنته التي لم يتجاوز عمرها بضعة شهور، تمتم بشيء من الدُّعاء وطلب من الله أن يحفظه حتى يتمكن من تربيتها، وكان الموقف من الشدة حتى إن أبواق السيارات لم تُفْلح في إيقافه عن قطع الطريق بتلك العشوائية التي لفتت الأنظار إليه، أحسَّ برغبة في الركض - ومع أن المنزل أضحى غير بعيد عنه - إلا أنه تصوَّر وكأن حواجز الدنيا - جميعها - تقوم بينه وبين الدَّار التي تَعوَّد الانطلاق منها وإليها لمدة تقارب العقد من الزمن، ولكن أنَّى له أن يَرْكضَ وقدماه قد أصابهما ذلك الثِّقل، واعتراهما من ((الوهَنْ)) ما يعتري السَّقيم في حالة إصابته بالحُمَّى. مَرَّ بصاحب الحانوت الذي رغب في الوقوف معه فهو لم يشاهده منذ أمد، ولكنه كان يسير على غير هُدىً، ويتحرَّك في كثير من الاضطراب، دخل الدار، ورمى بنفسه على الأرض في ذلك ((المقعد)) الذي كان يقضي والده فيه ليله ونهاره، أحسَّ الرجل الكبير بحالة الفتى، فرفع يده إلى السماء، وذرف دمعة واراها عن الابن، وكان الدَّمْعُ هو اللغة التي يلجأ إليها سَيِّدُ الدار في المواقف الصعبة، وكانت يا بني الدعوات التي انطلقت من فمٍ طاهر لا يعرف كذباً ولا نميمة هي ما أنقذ أباك - بقدرة الله ولطفه - حتى بلغ به العمر ما بلغ فكان قادراً على أن يَرْوي على مسمعك شيئاً من هذه السيرة التي تنضح الكلمات من خلالها بشيء مِنْ الحزن، لَم أكن قادراً على دفْعه أو العيش من دونه. ولعلك تُدْرك في مستقبل الأيامِ ما خَفي عليك من هذا الأمر مما يجعلك تبرر لهذه العبارات دموعها، ولتلك الكلمات شجنَها، ولهذا السَّرْد شكْوَاه وأنينَه، فليس اليراعُ الذي كتبتُ به هذه السطور هو الذي انغمس في مداد الحزن ولكنها النفس التي كان من حظها أن تعيشَ شيئاً من سوء الطَّالع، هناك يا بني، ولا أعلم عن هناك شيئاً، وفي انعطافه من انعطافات دُروب الحياة الطويلة، كان ((الميْسم)) الذي توجَّه إلى أعماق النفس، فتلظَّت به فما تصفَّد الجبين عرقاً، ولا التوى اللسان ثقلاً، ولا ارتجف القلب فرقاً إلا وأحسَسْتُ بوخز ذلك ((الميسم)) بين الضُّلوع، وكثيراً ما اكتوتْ النفوسُ، وكثيراً ما صبَرَ الرِّجالُ، ولكن تلك الوخزة في حدتها - كانت أكبر من قُدْرةِ الفتى على الصُّمودِ، لقد قال له صديقه ((الزَّين)) في لحظة صفاء: إنني لأتصوَّر ذلك العبء الذي تُلقي به الأيامِ على كاهلكَ ولو أُلقِي على الجبال الرَّاسيات لاعتراها كثيرٌ من الوهن، ومع أنّ رفيقه ((الزَّين)) هو الذي يعرف من خفايا أحواله ما لا يعلمه غيره، لكنه يُصغي إلى صَوْته الحنون وابتسامة حزينة تكسو مُحيَّاه - ولو كان في مقدورها أن تنطقَ - لأجابته، بأنَّ عينيك لم تنفذ إلى أعماق هذه النفس التي تكسَّرت فوقها النٍِّصال - تباعاً - فأيُّ رمح تريدها أن تَصُدَّ؟ وأي السِّهام تتلقَّى؟ وأي الكؤوس تتجرَّع؟ ومع هذا فرفيقُك لا يزال يرقب طَلوع الفجر وانبثاقة النور، وفيضاً من لُطْف الله ورحمتِهِ ورِضوانه.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :679  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 110 من 482
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج