شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
أشواق الطريق (6)
أمطريني يا أماه بفيض الحب ودثريني برداء الصبر، واسكبي في النفس أناشيد الليل المجلل بصفاء الروح حيث كان القوم يسمرون ليرتلوا آية، أو يشقوا هدوء السماء المظللة بملائكة الرحمة، يشقونه بترانيمهم التي يصدحون بها ابتهالاً إلى الله، وشوقاً إليه، وخوفاً منه، وأملاً في رحمته، إنني لأسمعهم يرددون جميل القول، ويخاطبون هتاف الروح، ويستدرون الدمع غزيراً من مآقيه.
((شعر)):
مولاي كتبت رحمة الناس عليك فضلاً وكرمْ
فالمرجع والمآل إليك عرب وعجمْ
مالي عمل يصح للعرض عليك، بل صار عدمْ
ارحم ذلي، ووقفتي بين يديك إن زل قدمْ
الحب (( يا أماه)) كان صناعة القوم حيث ولدنا ونشأنا، أتذكرين ((يا أماه)) مجلساً كان يتصدره عزيز القوم، أتسترجعين - صدى صوته - كما استرجعه بين جلسائه فإذا غضب لم يفحش في قول، وإن هو رضي جرى الذكر على لسانه، وإن أصيب بمكروه لم يتضجر.
أتذكر مناجاته لخالقه في دجى الليل، وأتذكر وقع أقدامه وهو يغادر الدار مع فجر كل يوم، ليعود مع نهاية النهار يحمل أقراص الخبز.. لقد كانوا يفتخرون في البلدة الطاهرة بحمل غذاء فلذات أكبادهم، يعتبرون ذلك عبادة، إنهم يكدون، وبأيديهم يعملون حتى تتشقق وتدميها مداومة الكفاح العصامي في هذه الحياة، لقد سمعتهم يقولون عن ذلك بأنه ((العيش الحلال)) فهم يتورعون عن أن يأكل أبناؤهم ما يدخل في باب الشبهة، ويمرون على الذهب والفضة فلا تمتد أيديهم إليها، لقد قنعوا بما كتب الله لهم فلا تتطلع أعينهم إلى ما في أيدي الناس، ولهذا حفظ لهم أسماعهم وأبصارهم ونضارة وجوههم، وجوههم التي تضيء بنور الإيمان، وهم يدلفون في سني حياتهم إلى التسعين والمائة، لقد كشفت ((يا أماه)) القناع عن وجهه ((يوم طلع السر)) إلى بارئه، لقد رأيت الدم يجري في عروق جبهته، ورأيت النور ينبثق من فم كان يتورع عن الخوض في أنساب الناس، وخصوصياتهم، وطبعت قبلة على ذلك الجبين الذي لم يكن يحنيه طوال حياته إلا لله وحده.
أتذكّر وقفته يوماً.. أمام رجل صاحب ((مكانة))، لم يجلس على أي من تلك المقاعد المتناثرة أمام مكتب المسؤول الكبير الذي سأله: أين كنت البارحة ((يا شيخ))؟ فيجيبه وهو يتكئ على عصاه. كنت ((أجابر)) قوماً من جيراننا في الحارة، وحين خرج لقيه رجل من سراة القوم في المدينة..
ـ لماذا هذا الوجه غاضب في هذا الصباح الباكر؟ يأتيه الجواب سريعاً..
ـ أتحبني يا سيد ((حسن))؟
ـ نعم..
ـ إذهب إذاً إلى صهرك ليقبل استقالتي فلا أريده أن يطلبني بعد اليوم.
وذهب المسؤول وذهب صاحب الموقف إلى رحمة الله وبقيت الذكرى تعاودني بين الحين والآخر، فأحدث نفسي قائلاً: أولئك قوم لا يسكن دواخلهم إلا الخوف من الله، وتمتلئ قلوبهم بحبه وحب رسوله صلى الله عليه وسلم سكنوا البقعة الطاهرة رغبة في الجوار، وهل هناك شيء أشرف من جوار الحبيب صلى الله عليه وسلم، تركوا المتاع الفاني حيث كان آباؤهم وأجدادهم، ورضوا بالقليل من متاع الدنيا، ليصلوا ركعة في الروضة، ليقفوا في أدب أمام أشرف مقام في الكون، أمام أفضل بقعة في الأرض، البقعة التي حوت مسجده ومصلاه، ومنبره، وحجراته الشريفة، ليلقوا السلام على سيد ولد آدم، وشفيع الأمم يوم الميعاد، وهنيئاً لمن تأدب في بلده، وسعادة لمن تشرب قلبه حب رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته وآل بيته - رضوان الله عليهم أجمعين.
يا صديقي، إن النبع يفيض دوماً ولا ينضب، والنور يسطع فلن يخبو يوماً، والنفوس المحبة تصفو فلا يخالطها كدر ما عاشت دهراً، والناس، يا سيدي ويا حبيبي ويا قرة عيني، يمدحونك فلن يستطيعوا أن يبلغوا شيئاً من ذلك القول المعجز الذي مدحتك به آيات الكتاب الحكيم وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (القلم: 4) وصدقت أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها حين وصفت خلقه قائلة: ((كان خلقه القرآن)) عليك صلوات الله وسلامه.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :722  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 100 من 482
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذة بديعة كشغري

الأديبة والكاتبة والشاعرة.