شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
أشواق الطريق (5)
كان الكون غارقاً في ليل داجٍ من الشك والغواية والضلال، وكان الإنسان ينحني أمام مظاهر الطبيعة ظناً منه أنها تتحكم في مصيره وتؤثر في حركته وسكونه، كان يخيفه صوت الرعد وتدهشه أشعة الشمس، ويأخذ بمجامع قلبه ضياء البدر، وكان يقف حائراً أمام النهاية المحتومة له على وجه هذه الأرض، وكان يجنح في سلوكه لأنه لا يعرف لوجوده غاية، لذا فهو يعب من شهوات الدنيا عبًّا لا يفرق فيه بين حلال وحرام، وحسن وسيئ، وجميل وقبيح. وكان الإنسان العربي لا يختلف عن أي إنسان آخر في تصوراته عن الكون والحياة، باستثناء فئة قليلة عرفت باسم الحنفاء، وكان هذا الإنسان يتفرد عن أمم الأرض الأخرى بصفاء السريرة ونقاء الضمير، ولهذا شواهد وعليه تقوم أدلة، فلقد بنت قريش في جاهليتها الكعبة، من المال الحلال، وعندما لم تجد كفايتها من هذا المال لم تكمل بناء البيت على قواعد سيدنا إبراهيم عليه السلام، واكتفت ببناء حائط الحجر حجر سيدنا إسماعيل عليه السلام، وهو جزء من البيت المعظم، وأقر النبي صلى الله عليه وسلم بعد البعثة النبوية قريش على فعلها كما حدثت بذلك أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها، واختلف القرشيون عند بنائهم للبيت على من تكون له الحظوة بوضع الحجر الأسود في موضعه، ولكن الله هداهم إلى حكمة بالغة عظيمة الدلالة، فأول داخل من باب السلام سوف يتركون له الأمر، وتركزت الأبصار على ذلك المدخل، ولم يطل الانتظار، فجأة يدخل الأمين بطلعته البهية، بالنور المشرق من محياه الذي شاهدته المرأة الخثعمية في وجه والده عبد الله بن عبد المطلب وحملته السيدة المصونة آمنة بنت وهب في أحشائها والأثر بالغ الدلالة لكل متردد وحائر ومتقول.. قوله صلى الله عليه وسلم ((أنا خيار من خيار لم يلتق أبواي على سفاح قط)).. والأبوة هنا ما تقارب منها وما تباعد، لا يشك في ذلك مؤمن، ولا يختلف في ثبوتيته مسلم، نعم.. لقد دخل ((الأمين)) - كما كان قومه يسمونه في الجاهلية - فتوجهوا إليه، وألهمه رب البيت الحل.. بسط رداءه في الأرض المباركة.. وطلب منهم أن يضعوا الحجر الأسود، وأخذ فرداً من كل قبيلة ليشارك في حمل هذا الشاهد السماوي في الأرض، ثم التقطه بيده المباركة ووضعه في مكانه الذي هو ما زال عليه حتى الآن.
ولم تكن قريش تعلم يومها أن من جمع الله به شمل الأمة في اختلافها عند بناء البيت، سوف يجمع به قلوباً متنافرة ويقضي به على ثارات دفينة وأحقاد موغلة في الزمن، ما كانت قريش تعلم أن الداخل من باب السلام هو الذي سوف يرفع راية الأمة التي انتكست حقباً طويلة لأنها كانت تتقاتل على قطعة أرض، ومنبت عشب، ومرعى دابة.. وهو الذي سوف يعلمهم أن النسب هو العمل، وأن المقياس هو التقوى والفيصل، هو العطاء الصادق والسلوك النزيه يتعبد الأمين في غار ((حراء)) يطل من ذلك المرتفع على وديان مكة وشعابها، يأسى لحال قومه ويرفع بصره إلى السماء، يقلبه يمنة ويسرة ثم يرتد منه البصر إلى الأرض، ولكن قلبه الشريف كان معلقاً بالعالم العلوي، وروحه كانت ترفرف في عوالم الملكوت، تأتي لحظة السعادة ويبزغ فجر جديد على الإنسانية تنزاح معه تراكمات الغي والضلال، وتتبدد معه كل الشكوك التي كانت تتشابك خيوطها في داخل النفس الإنسانية، ينزل الملك جبريل عليه السلام بالوحي يهزه مخاطباً اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ . خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ . اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ . الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ . عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (العلق: 1 - 5).. ينفتح لب السيد المصطفى لكلمات الوحي.. لقد وعى لغة الوحي، وخطاب السماء، أسرع إلى السيدة المصونة خديجة الكبرى رضي الله عنها خائفاً وجلاً، دثرته، زملته، ثم خاطبته بلغة الحب والحنان والإيمان ((لن يخزيك الله أبداً يا ابن العم)).
وعندما أفاق من تلك اللحظة التي حملت إليه الخطاب الإلهي، أخذته إلى ابن عمها ((ورقة بن نوفل)) الذي طأطأ رأسه إلى الأرض حين سمع منه ما سمع.. إنه الناموس الذي أتى موسى وعيسى والرسل من قبلك - عليهم السلام.. ليتني فيها جذع عندما يخرجك قومك، ويأتي السؤال بغرابة على لسان الحبيب صلى الله عليه وسلم: أوهم مخرجي منها؟ وتأتيه الإجابة باقتضاب: نعم.
نعم.. لقد أخرجوه وهم جاهلون، ثم استقبلوه وهم مؤمنون فخاطبهم يوم الفتح قائلاً: ما تظنون أني فاعل بكم؟! يجيبونه بلسان الحب... أخ كريم.. وابن أخ كريم.. فيهتف فيهم وقلبه ممتلئ رحمة وعطفاً: اذهبوا فأنتم الطلقاء.
ما أروعه من مشهد.. وما أعظمه من حدث، وما أجدرنا في شهر الربيع الأنور أن نستلهم تلك المثل العليا التي جسدها صلوات الله عليه وسلامه في سلوكه رحمةً ورفقاً وليناً وحلماً، كان يناقش الناس بصدر رحب ونفس مطمئنة وكان إذا رأى من غريب خطأ قال لأصحابه رضي الله عنهم موجهاً علَّموا أخاكم فقد أخطأ، أو كما قال:
وكان سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه شديداً في الحق، وكان يأتي البعض فيغلظ القول أمام الحبيب الأعظم صلى الله عليه وسلم أو يخاطبه بلغة تعوزها الرقة، وكان الفاروق من حبه للنبي صلى الله عليه وسلم لا يطيق رؤية من يغلظ القول أو يسيء الأدب في حضرته الشريفة، ولكن الرسول الذي خاطبه مولاه قائلاً ((فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك)) كان يهدئ من روع الخليفة الراشد عمر رضي الله عنه وأرضاه، ويستمع للقول أياً كانت لغته ويوجه صاحبه إلى الطريق الأقوم، فيعود ذلك الإنسان وما على وجه هذه الأرض أحب إليه من هذا النبي الكريم الذي وصفته آيات الكتاب العظيم بالرأفة والرحمة لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ (التوبة: 128)، وتجسدت أخلاقه السامية والرفيعة الشأن في القول الإلهي الصادق وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (القلم: 4).
يا شباب الإسلام، أين أنتم من أخلاق صاحب الرسالة؟ أين أنتم من تيسيره لأمته التي لا يرضى بأن يكون أحد منها في النار؟ أين أنتم من ذلك الأفق الواسع، وتلك الوداعة المحبوبة التي جذبت قلوب الخلق من كافة الأمم حوله؟ ولما نزل عليه جبريل عليه السلام بالوحي الإلهي في قوله تعالى: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (الأعراف: 199) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل: ما هذا؟ قال: لا أدري حتى أسأل، ثم رجع فقال: إن ربك يأمرك أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك، وتحسن إلى من أساء إليك ذكره الإمام البغوي.
يا أمة الإِسلام، لقد أتى المصطفى صلى الله عليه وسلم بالدين الخاتم الذي ارتضاه لعباده وأكرم به هذه الأمة لحمل رسالته العظيمة، ويوم حملها رجال هذه الأمة في حياته صلى الله عليه وسلم، وبعد مماته سادوا في هذا الدنيا، وانتصروا على كل عدو وحاقد، وعندما يترك البعض هذه الرسالة التي أعطت للعالم حضارته، وللوجود نقاءه وطهره، وللفرد حريته وكرامته وعندما يوجهون أنظارهم إلى نظريات بائدة، ومناهج بشرية متغيرة، ومفاهيم مادية بحتة، يوم يفعلون ذلك، فإنما يتركون الرفعة والسؤدد وراء ظهورهم، ويستقبلون حياة الذل والهوان والضعة، فاللَّهم ارزقنا حسنة، واسلك بنا مسالك النجاة التي عبر عنها صلى الله عليه وسلم بقوله: تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، أو كما قال.
(فداك أبي وأمي يا سيد الخلق، ورحماك يا ربي).
 
طباعة

تعليق

 القراءات :693  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 99 من 482
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الجمعية النسائية الخيرية الأولى بجدة

أول جمعية سجلت بوزارة الشئون الاجتماعية، ظلت تعمل لأكثر من نصف قرن في العمل الخيري التطوعي،في مجالات رعاية الطفولة والأمومة، والرعاية الصحية، وتأهيل المرأة وغيرها من أوجه الخير.