شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
هتاف الربوة (2)
ينقل الفتى خُطاه بين العنبرية والساحة الممتدة بين (دار العلوم الشرعية) و(مقرة المدينة) والتي أضحى اسم ((بقيع الغرقد)) علماً عليها، من هذه الساحة تنطلق ((الجنائز)) إلى دار الفناء، هذه ساحة ((الفناء)) فيها يلعب الأطفال قبل حلول موعد انطلاق ((صافرة)) مراقب المدرسة صاحب الصوت المتميز بقوته وجسارته بين بقية المدرسين، وفيها مع الصباح الباكر، وعند حلول شمس الأصيل ينتشر ((الباعة)) ولا ينسى الفتى وقوفه عند بائع ((الأقر)) وهي قطع من الحلوى ذات اللون الأحمر والمذاق السكري، وعندما يسكب البائع من ذلك الإبريق الصغير ذلك الشراب الذي لا يختلف في مذاقه ولونه عن الحلوى نفسها تتسابق أيدي الأطفال لأخذ نصيبهم من هذا الطعام الذي يبدو أنه اكتسب اسمه من لغة أخرى، ولا يستبعد أن تكون اللغة الأندونيسية هي الأصل في تسمية هذا النوع من الطعام الذي اختفى في هذا الزمن.
ومن هذه الساحة ينطلق الفتى مع أنداده إلى المقبرة التي لم تكن تقفل أبوابها، الحياة هادئة إلى درجة السكون ولا يستوقفنا في الطريق إلا ذلك البناء الخشبي الذي يشبه ((الكوخ)) ويجلس فيه رجل يرتدي زياً عسكرياً قديماً، ولا أعلم إن كان هذا الكوخ هو من بقايا باب الجمعة الذي يعتبر في الماضي باباً من أبواب سور المدينة؟ ربما كان الأمر كذلك فالذي أعرفه أن الناس وخصوصاً صغار السن منهم لا يستطيعون تجاوز ((البقيع)) إلى ما خلفه، فهناك منطقة ((الصيران)) طرق ضيقة توصل إلى بعض البساتين المنتشرة، ومنها بستان ((الأخَويْن)).
الأنداد كانوا لا يستريحون إلى مرأى الرجل القابع في ((كوخه)) الخشبي ولا إلى مداعباته الغليظة، ويسأل الفتى نفسه هذا السؤال: هل يحس هذا الرجل بكراهية هؤلاء الأطفال له؟ ولكن السؤال ظل دون جواب حتى بعد أن اختفت معالم تلك الحياة البسيطة، وحلت محلها مظاهر من تلك الحياة الصاخبة التي أعطت الإنسان هذا الترف المادي وسلبت منه هدوءه وعفويته وبساطته.
لم يكن مرأى منازل الآخرة يثيرُ رعْباً في نفس الفتى، ولم يكن الوقوف على حافة القبر والناس يودعون أغلى وأعز أحبابهم الثرى، لم يكن ذلك الوقوف مما يخشاه الفتى أو يخافه، ولكن السؤال كان يلح عليه كثيراً هو: لماذا يمسك الناس بحفنة من التراب ثم يرمون بها داخل هذه ((الحفرة)) التي يُلحد فيها الإنسان؟
ويجيبه صدى منبعث من أعماق ذلك السكون وهتاف تردده تلك اللبنات التي تُقفل بها فتحة هذا ((المنزل)) الذي لا يملك الإنسان حقيقة من مفاتيح الدنيا سوى ((مفاتيحه)) سواء طال به المقام أو قصر! فرح في دنياه أم ترح! اغتنى في أيامه أم افتقر! حاز متاعاً أم رضي بالقليل، وقنع بالحطام واكتفى بكسرة خبز وشربة ماء يجيبه الصدى: هذا عجز الإنسان أمام حقائق الكون الأزلية والمطلقة، هذا ضعف الإنسان أمام قضاء الله وقدره، هذا موقعه كذرة تائهة في ملكوت السموات والأرض لا يملك من أمر نفسه شيئاً ولا يقوى على رد ما يكره، أو جلب ما ينفع إلا بإرادة من خلق فسوى وقدر فهدى.
في البقيع، ترتفع مساحة من الأرض الطيبة اللدنة عما سواها، تلك هي ((الربوة)) تحيط بها منازل الصحابة وآل البيت - رضوان الله عليهم - وزوجات المصطفى صلى الله عليه وسلم، وكان الفتى يرى كثيراً ممن يصحبون ذويهم لدار البقاء، يشيرون إلى تلك الربوة وشيء من الدمع ينحدر من مآقيهم، وكثير من الشوق إليها تبين عنه سرائرهم، ودفين من الوجد لمعانقتها - أي الربوة - تحسه في وجيب قلوبهم، ونبض صدورهم.
بالأمس يا صديق العمر أودعناك على مقربة من الربوة، لن أنسى حديثك إليّ في ((فرش الحجر)) وأنت تقول بصوت خافت: ((أنا يا أخي مُبشّرٌ بحسْنِ الخاتمة))، كنت في الدنيا تسير والناس يسيرون خلفك ليس لمال تملكه أو دنيا تحوزها، ولكن لذلك الصفاء الذي يتبطن أعماق نفسك ولتلك البهجة التي تبثها على من حولك من الإخوان والخلان، بهجة يحسها الآخرون في صدق حديثك ومتعته وطرافته، ويوم ودعك الناس، وصلّوا عليك بالقرب من أشرف بقعة وأكرم مقام، تزاحم الناس ليلقوا عليك النظرة الأخيرة ويأخذوا حفنة من التراب ممزوجة بالدمع، ومعجونة بالشوق ثم يرمون بها كريحانة من رياض بساتين المدينة، كوردة يفوح شذاها وينتشر عطرها، كنسمة ندية من نسمات صبح أغر، كنداء الفجر من ((باب السلام)) كهتاف الوجدان من ((باب الرحمة)) كطيف زاهٍ يقترب من ((القباب)) ثم يستقر في الحجرات، يا صديقي الذي ودعني ((بالدمع)) بعد أن كان يختم حديثه معي بصوت ملؤه الحياة والحب والصفاء، لقد استقررت أخيراً حيث كانت منك النفس تتشوف، والقلب بين الضلوع يتشوق والنفس في مستودعها تطمئن وتسكن، وتركتني بعدك أذرف الدمع سخياً بين ليلي ونهاري، عارفاً عما كانت تهفو إليه متطلعاً ليوم تحتضنني فيه الربوة كما احتضنتك بالأمس القريب، فإنني لأحس بهذا الحنين المتنامي بعد أن أصبح طعم الحياة في فمي مراً، وكثيراً ما ولدت القسوة مرارة، وربما جنت الجفوة من حيث لا ندري، على حب للحياة ولد بالأماني غضاً طرياً.
فاصلة:
من شعر الشاعر الإنجليزي ((وليام شكسبير)):
ربما جئت خاطراً في فؤادي
فإذا جئت بدل العسر يسرا
فأغني كالطير طارت صباحاً
نحو باب السماء تسبح شكرا
 
طباعة

تعليق

 القراءات :663  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 94 من 482
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور زاهي حواس

وزير الآثار المصري الأسبق الذي ألف 741 مقالة علمية باللغات المختلفة عن الآثار المصرية بالإضافة إلى تأليف ثلاثين كتاباً عن آثار مصر واكتشافاته الأثرية بالعديد من اللغات.