شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
هاتف الربوة (1)
عندما ودعته في طيبة وفي أيام العيد المبارك كنت أجهش بالبكاء، لم أطق أن أراه على تلك الحالة التي كان عليها، كان صوته يملأ المكان ولكنه اليوم لا يقوى على تحريك شفتيه، كان دائم الحضور في المجلس، ولكنه اليوم حاضر بجسده وغائب عنا بروحه، وأمضيت أياماً لا تفارق مخيلتي صورته، هناك في الحصوة كان يجلس متدثراً بردائه، لا يفارق ((الدرس))، يقول لي: الحياة من دون علم لا تساوي شيئاً، وكان يحفظ من الأحاديث ما يجعلني أتساءل كيف تسنى لهذا الرجل الذي لم تطأ قدمه عتبة مدرسة أو جامعة، كيف تسنى له أن يصبح مرجعاً لمن هم في عمره أو دون عمره في علوم شتى ومعارف متنوعة، وتذكرت مقولة أحد مشائخنا الأفاضل في مكة شرفها الله ((لو علم الناس ماذا عند صديقكم ((معاذ)) من علم لم يتركوه قط)).
كنا يا صديقي أربعة من ((الخلان)) جمعهم الحب في الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - وضحى يوم من أيام الربيع الأزهر - وقبل ثلاثين عاماً - بالتحديد تركنا جليسنا ((ابن عيسى)) ومضى إلى الدار الآخرة وظللنا نتذكره في كل يوم، لا يغيب عنا في نوم أو يقظة، وأتذكر قولك أيها الحبيب الراحل وأنت تقول: لو عاش ((محمود)) لبزَّ كثيراً من أنداده، ثم تعقب مذكراً، لقد ذهب خفيفاً! وكنت تعني: إنه لم يتلوث بشيء من مظاهر هذه الحياة الفانية، أترانا تعلمنا من الدرس شيئاً؟ أتحسبنا قد حاسبنا هذه النفوس كما يجب أن تحاسب؟ أتحسبنا كنا أكثر حظوة منه ونحن نمشي في دروب الحياة؟ وما بين اتزان وتعثر، وصحة وسقم، وصفاء وكدر، وطمأنينة وقلق، ما بين ذلك كله قطعنا دروب الحياة، ومع كل يوم ينصرم وليلة تنقضي، نشعر بأن الأمس كان أكثر بساطة وأشد صفاء وأحلى عيشاً وأطيب مذاقاً، وأزهى صورة.
لم نتعلق بالأمس برغد العيش وطيب المأكل والملبس، بل تعلقت قلوبنا بذلك ((الصفاء)) الذي كان يغمر منا النفوس فإذا بالعين تبصر ذلك الجانب المضيء من الحياة، وتنفذ إلى أعماق الأشياء فينجلي لها من آفاق الدنيا ما يجعلها تتيقن أن ((الإيمان)) هو خير ما يحوزه الإنسان، وأثمن ما يملكه، إنه إكسير الحياة حقاً وما سواه ظل لا يلبث أن يزول وما غيره خيال يتبدد، ولذة لا تدوم.
يا صديقي.. يا من رحلت عن دنيانا طامعاً في رحمة الله ومثوبته، بالأمس كنت أرفع سماعة الهاتف رغبة في أن تنزه النفس مني في رياض العلم التي كنت تملك شيئاً من مفاتيحها وحباً في سماع الصوت الأخوي الذي يخفف عني شيئاً مما أجده بين جنبات هذه النفس من ضيق أو حزن، واليوم أعلم أن قضاء الله قد نفذ ولا نملك إلا الرضا بحكمه وأن الصوت الذي ألفت الأذن سماعه وتعلقت بصاحبه أيّما تعلق، ذلك الصوت قد أخذ نصيبه من هذه الحياة ومضى إلى دار أخرى لا كدر فيها ولا حزن، ولا تشوبها بغضاء ولا إحن، إنها الحياة الخالدة التي نسأل الله لك فيها أيها العزيز الراحل نصيباً كبيراً من الحياة الخالدة التي نسأل الله لك فيها أيها العزيز الراحل نصيباً كبيراً من مثوبة الله ومغفرته ورضوانه ونسأله - عزّ وجلّ - أن يحفظ علينا نعمة الإسلام والإيمان وكفى بها من نعمة.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :700  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 93 من 482
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج