شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
حديث الزين عند السارية
صديقي ((الزين)) يرى في منامه الأعراس، كنت ألقاه بعد صلاة كل فجر عند سارية من سواري المسجد، سجادته فوق كتفه، شفتاه تتحركان بذكر الله، ويقبض على مسبحته ولا يستطيع أن يسير بدونها، أومأ إلي - وكم كان أدبه عظيماً وكبيراً في جوار الرسول صلى الله عليه وسلم.
همس مرة في أذني: بشرى أيها الحبيب لصديقنا ((ابن عيسى))! وجذبني حديثه فاقتربت من السارية وهززت رأسي دلالة على استماعي له. لقد رأيت البارحة امرأة ضخمة الجثة في المنام ورأيت صديقنا يسند رأسه بجوارها، كان في المنام أطول منه في الحقيقة، سألت المرأة ما شأن صاحبنا؟ رفعت رأسها إليّ وقالت: لقد أصابته رحمة الله ثم صمت واستمر في الذكر.
وحين طلعت الشمس، قام صديقي فصلى صلاة الضحى، نظر إليّ باستغراب وقال: ألا تريد مصاحبتي لمسكن ابن عيسى نبشره بالرؤيا؟، من عادتي أن أتبعه في كل طريق يسلكه، وأجلس بجواره في كل مكان يؤمه، لم أجرب عليه كذباً، ولم أره إلا في مواقف الخير، وتعلقت روحي به فنحن سوية في مجلس الذكر، وتقودنا أقدامنا مع صباح كل يوم أربعاء، إلى حي سيد الشهداء، ومع عصر كل خميس إلى المساجد السبعة وتضيق بنا الدنيا ليلاً فنؤم ((فرش الحجر))، لا نرى فيه إلا ((أبا الفيض)) يقف على قدميه أمام المقام مستغرقاً في عوالم الحب والوجد، ويمسنا شيء من وصب هذه الدنيا فنحن في الحضرة حضور، وأمام الضريح تحفنا بركات أشرف بقعة في هذا الكون، وأكرم تربة تزكى بها هذا الوجود.
خرج ((الزين)) مطمئناً من باب ((جبريل)) وحين انعطفنا إلى الطريق الذي ينتظم موقع دار أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه الدار التي تشرفت بحلول الحبيب فيها صلى الله عليه وسلم عند قدومه إلى المدينة، ينتظم ذلك الطريق تلك الدار إلى يسار الذاهب إلى ((الحارة)) كما ينتظم موقع عارف حكمت إلى يمينه.
شاهدنا رجلاً صالحاً قد جاوز الثمانين من عمره، هذا العم ((علي رنقا)) واحد من المجاورين المتأدبين في بلد المصطفى صلى الله عليه وسلم وأكاد أجزم أنني لم أر متأدباً في حياتي مثله، كان إذا دنا من الطريق الموازي للضريح المحمدي، حمل حذاءه بيده فلا يلبسه حتى يتجاوز برحة ((باب السلام))، كان العم ((رنقا)) قليل الحديث، إذا قابلك أكثر من الدعاء، وإذا انصرف عنك شاهدت تمتمة لسانه بالذكر، ولقد عمر الرجل إلى حوالي التسعين وأكثر، أذكر حديث والدي، رحمه الله، عنه، لقد شارك ((الرنقا)) في بناء محطة سكة الحديد ومسجدها المتميز في بنائه من الحجر بباب ((العنبرية)).
صديقي ((الزين)) روى منامه على مسمع من الشيخ ((الرنقا)) صمت الرجل الحكيم وقال: خيراً إن شاء الله. وتابع طريقه إلي برحة ((باب السلام)) وسلكت وصديقي الزين الطريق الذي ينتظم على جانبيه الدار والمكتبة وقادتنا خطواتنا إلى ((الرباط)) الذي يسكنه صديقنا.
كنا أربعة جمعنا الحب في الله ورسوله صلى الله عليه وسلم الزين، وابن جبل، وابن عيسى، والعبد الفقير إلى مولاه، الرباط وموقعه وغرفه ليست غريبة علينا، ولكن ضحى ذلك اليوم كان غريباً جداً، النساء الطاعنات في السن يجهشن بالبكاء، الأطفال يتجمعون حول مدخل ((الرباط))، صاحب الحانوت أغلق حانوته وانتحى جانباً، ما الأمر يا عم ((يحيى))؟ لقد خرج ابن عيسى على قدميه هذا الصباح.. كنت أسمع الدعاء الذي يتلوه عند خروجه من الدار، ثم لم يمض وقت قصير حتى عاد من العمل سقيماً، دخل على أهله وأبنائه وتمدد، رفع بصره إلى السماء، وابتسم ابتسامة الرضا.. ومع تلك الابتسامة كان صعود السر الإلهي إلى مولاه، عندما أتت زوجته بكوب الماء له ليشربه وجدته يرفع سبابته وينطلق بالشهادتين.
كان ابن عيسى يحدثنا عن القوم الذين سبقوه إلى الدار الأخرى، يراهم في منامه ويحن للقائهم، لم يمرض، لم يزعج أحداً، لم يثر موته ضجة، ولكنه ذهب كمثل الطيف الذي رآه في منامه، نظرت إلى ((الزين)) أنت يا صديقي دوماً تحمل بشارة الأعراس، ولكنها أعراس من نوع آخر.
قال لي الصديق السيد الفاضل عباس بن علوي المالكي: ((يدخل الإنسان في هذه الدنيا بأوراق ويخرج منه بأوراق، ولكن الأهم من ذلك تلك الأوراق التي دوّنت عليه قولاً وسمعاً وعملاً)) ووجدت حكمة في قول أبي علوي، وتذكرت عند تربة سيدة الوادي، أحباباً ضمهم الثرى في التربتين المباركتين، وكان جليسنا ((ابن عيسى)) من بين القوم الذين تذكرت، فلم أجد شيئاً أقدمه له سوى الدعاء، إننا في دار نعمل، ولا نعلم، وهم في دار يعلمون ولا يعملون، فاللَّهم ارحم ضعفنا، وآمن خوفنا وبارك في أعمارنا، واجعل خير أيامنا يوم نلقاك، وصلَّى الله على سيدنا محمد النبي الأمي الحبيب العالي القدر، العظيم الجاه وعلى آله وصحبه وسلم.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :619  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 92 من 482
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

سوانح وآراء

[في الأدب والأدباء: 1995]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج