شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
طيف المنام وصوت النعمان
لم تكن ((الحارة)) هي المكان الوحيد الذي يقصده الرجلان في الأمسيات الجميلة من ذلك الماضي الذي يبدو الآن كنجم يسطع في تلك الآفاق البعيدة من السماء، بل كانت برحة ((البقيع)) موضعاً آخر يشعران فيه بطمأنينة النفس، وسكينة الروح، وبالقرب من هذه البرحة كانت تقوم ((غرزة)) المعلم ((بكر)) وكانت ((الغرزة)) تمتلئ بالناس بعد انصرافهم من صلاة المغرب، وتخلو إذا ما انصرف الناس إلى دورهم بعد انقضاء وقت ((العشاء)).
وكانت ((الغُرزة)) آخر نقطة تفصل بين مواطن الحركة في البلدة ومواطن العزلة والهدوء حيث البساتين الي يميزها ذلك الطلع من ((النخيل)) غير المثمر الذي يطلقون عليه اسم ((الصيران))،وكان صاحب ((الغرزة)) يعرف أسماء رواد أماكنه، ويعرف ما يطلبونه من أكواب الشاي أو القهوة، وبهذا فقد اعتاد الناس أن يأخذوا مواضعهم على كراسي ((الشريط)) وينتظرون حتى يأتي ((المعلم)) لهم بما يرغبونه من أصناف ((الشاي)) الذي كان يفضل شربه في ليالي الصيف الساخنة.
يضع المعلم ((الطلب)) ثم ينصرف ليأتي بشربة ((الماء)) المصنوعة من ((الفخار)) والتي كادت تختفي تماماً اليوم، ولا يمكن ((للمعلم)) أن يخطئ في الوقت الذي دخل فيه الزبائن غرزته، فهو يعرف تماماً من الذي أتى أولاً ومن الذي قدم لاحقاً، وهو شيء مهم بالنسبة للرجل الذي لا يتحدث أبداً، فالرجل بفطرته لا يفرِّق بين الناس مهما كانت منازلهم، ولعلّ حب الصنعة وعشقها يدعوه لهذا النظام الذي سار عليه مدة طويلة من الزمن في تلك ((الربوة)) التي يأتي إليها الشباب ليلاً ليمارسوا رياضة ((القشاع)).
وكان صاحبنا شغوفاً برؤية الشباب وهم يلوِّحون ((بالعصى المزقرة)) فيما يسمى بالتمرين، ولكن الذي أثار فضول هذا الصبي هو أن ((الحكم)) في هذا الصنف من ((الرياضة)) لم يبصر نور الحياة أبداً، فإذا ما اختلف شباب ((الحارة)) عادوا إليه فقضى بينهم وكأنه كان يبصر ((بعينيه)) ما يجري في ساحة اللعب. وتذكر الصبي أحاديث صديقه ابن جبل كيف أنهم خرجوا ذات ليلة إلى ((المائدة))، وكانوا قلة وجاء القوم من ((حارة)) أخرى أعداداً كبيرة، فأصاب الخوف البعض من هذا النفر القليل، فأحس ((ابن عيسى)) بذلك الهلع الذي مس قلوب جماعته، فأمسك بعصاه، وكان طويل القامة، و ((ساق)) على صفوف الآخرين فتراجعوا، ويتنهد صديقي ((ابن جبل)) بعمق ويقول: لو عاش ((ابن عيسى)) لتفوق على بعض الذين يكبرونه سناً، ويضيف، لقد انقضى ((اللعب)) وخلت ((المائدة)) من ((المفاتيح)) وكأن عصا ((البطل)) أصابت رجلاً من الحاضرين الذين أتوا لممارسة هذا الضرب من ((الرياضة)) التي لم يبق لها سوى اسمها، أما مضمونها الحقيقي من نظام والتزام وأدب فلقد ذهب كل ذلك مع من رحلوا من القوم.
وذهب ((ابن عيسى)) حيث يقيم في واحد من شوارع الحارة الضيقة المقابلة للقبة الخضراء التي تحتضن سيد البشر صلى الله عليه وسلم، وعندما غمضت جفناه، وكان الوقت متأخراً رأى طيفاً في المنام، يخاطبه، كيف تمس عصاك رجلاً مسلماً مثلك؟.. واستيقظ ((صاحبنا)) على صوت ((المؤذن)) من المنارة ((الرئيسة))، وكان الصوت الندي هو صوت محمود نعمان رحمه الله، (الصلاة خير من النوم)، فأسرع صاحبنا بعد أن تهيأ للصلاة وقصد ((الصفة)) وبعد أن انقضت الصلاة لمحه صديقه ((ابن جبل)) وهو يبكي، اقترب منه، سأله عن سر بكائه، انتحى به جانباً وأخبره بما شاهده في منامه ثم قال: إنها آخر ليلة أسري فيها مع القوم، واعتزل ابن عيسى الناس.
كان يخرج في الليل ويقف أمام ((القبة)) يتملى ذلك المنظر البهي، يصلي على سيد البشر صلى الله عليه وسلم ثم ينصرف إلى الدار.
وسافر ((ابن جبل)) بعد أسابيع قليلة من ذلك الحدث إلى خارج المدينة، ويوم رجع، في ((فرش الحجر)) وسألته: إلى أين أنت ذاهب يا صديقي؟ فأجاب: أريد رؤية ((ابن عيسى)) صديقي في الله، لقد اشتقت إليه كثيراً، لم أجبه ولكنه أحس بشيء ما ربما أخفيه عنه، رفعت رأسي، نظرت إليه في حزن، لقد ذهب صاحبك إلى ((الربوة)) ولكن ليس لتلك ((الربوة)) التي كنتما تقصدانها ليلاً، لقد ذهب إلى ((ربوة)) البقيع محمولاً على الأعناق، وحثونا عليه التراب كما نحثوه في كل مرة على أقرب الناس إلى قلوبنا، وربتُّ على كتف صديقي ((ابن جبل)): لقد ختم الله لصاحبنا بالخاتمة الحسنة، ألا تتذكر قوله لنا في ليلة من ليالي ((فرش الحجر)) سوف أسبقكما، وسوف تبقيان بعدي دهراً ولكن مع شيء من النّصَب؟
وما زلنا يا صديقي نعيش نَصب هذه الحياة، ولكنها المسيرة التي كتبها الله لعباده، والدرب الذي لا بد من اجتيازه، ونسأل الله أن يعيننا على اجتياز العقبة، والله المستعان على ما نقول.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :642  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 91 من 482
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذ الدكتور سليمان بن عبد الرحمن الذييب

المتخصص في دراسة النقوش النبطية والآرامية، له 20 مؤلفاً في الآثار السعودية، 24 كتابا مترجماً، و7 مؤلفات بالانجليزية.