شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
فقير في ديار الرحمة (4)
دخل الخيمة.. سمع صوت الفقير ((عبد القادر)) الذي يسكن هو وزوجته وابنته الوحيدة في غرفة واحدة، ((الطويل)) قال لي: هذا رجل ((براني)) وغريب الأطوار، ثم سكت، لأن ((المختار)) دخل علينا وفي يده جهاز راديو قديم، يسمع منه أخبار العالم، والمختار يجمع أخبار ((الدوار)) ويأتي للخيمة كل صباح قبل أن ينطلق ((الطويل)) بعربته إلى السوق ليخبره بما يجري في ((الكدوة)) التي تبعد عن ((الروضة)) التي تحد خيمة الطويل من الناحية الجنوبية. ((المختار)) ليس كعادته.. لا بد أن أمراً غريباً جرى في الدوار، وقبل أن يسأله نسيبه وصديقه عن بضاعته من الكلام، ابتدره ((المختار)) قائلاً: لقد وجدوا اليوم زوجة الفقير ((عبد الله)) ميتة في الكوخ الذي يسكنه الفقير، ولكن ((أهل الحي)) لم يعرفوا بالوفاة إلا في وقت متأخر، جاء أهلها وقاموا بتجهيزها وزوجها لم يبد أي اهتمام إزاء من حضروا لتعزيته، بل إنه أغلق باب ((الكوخ)) على نفسه بعد الوفاة، ولم يستقبل أحداً من الزائرين الذين جاءوا لتعزيته في زوجته.
وعندما جاء الطويل طلبت منه أن يأخذني إلى دوار الفقير عبد الله فأنا لا أعرف لماذا أضحى الرجل موضع اهتمامي وخصوصاً بعدما سرد المختار شيئاً من أخباره الغريبة على مسمعي، في البداية لم يتحمس صديقي ((الطويل)) لطلبي، ولكن زوجته الطاعنة في السن، شجعته على مرافقتي حيث يسكن الرجل الغريب، طلب منها أن تخرج له العصاة الطويلة التي يحملها معه في الليل لأن أهل الدوار لا يبصرون طريقهم في ذلك الوقت إلا على ضوء الشمع ويعيشون ليلتهم في خيامهم على ضوء القمر.
طلب مني الطويل أن أتبعه وأن أكون حذراً فالكلاب التي تحرس الدور في الليل قد تهاجم الغريب وتفتك به. وسار بي ((الطويل)) في دروب متعرجة بين خيام أهل الحي.. وعندما اقتربنا من خيمة الفقير عبد الله، التفت إليّ الطويل وقال: هناك ((سر)) لا يعرفه إلا الخاصة من الناس، وقبل أن يبوح لي بالسر، أحسست بفضول شديد لمعرفة شخصية الرجل نفسه! وما هو السر، يا ((سيدي محمد))، فقال: الفقير عبد الله هو شقيق لوالدتي ولم يبق في الدوار من أقاربي سواه فلقد نزحوا جميعاً إلى أماكن أخرى يبحثون عن لقمة العيش، وبقيت وحيداً في هذه القرية حتى تزوجت بأم الأبناء،ولكن ((خالي)) يرفض الإتيان إلى خيمتي، ويعيش منذ زمن في هذا ((الكوخ)) الذي تحرسه مجموعة من الحيوانات المفترسة، وكنا كلما اقتربنا من الكوخ تعالت أصوات هذه الحيوانات التي ألف الفقير العيش معها.
وحين وصلنا ناداه الطويل بلقبه الذي عُرف به في القرية، فتح الفقير باب الكوخ.. كان شكله مختلفاً عن بقية الناس في القرية، كان يلبس عصابة فوق رأسه، ذكرتني بالعمامة الصفراء التي كان يضعها والدي فوق رأسه في أيام شبابه.
نظر عبد الله إلينا بغرابة فالوقت كان ليلاً، وكنت أحمل ((خنشة)) السكر في يدي، وقدمتها إليه فأشار إلينا بالدخول.. تقدمني الطويل ثم تبعته وفي نفسي شعور من الهيبة والخوف معاً، كان الماء يغلي في ((المقراج)) فوق ((المجمر)).. كنت أسمع حركة المقراج فوق النار الملتهبة، تذكرت ((بنت البخاري)) عندما أجلستني في ذلك المقام البهي واستعادت ذاكرتي كلماتها.. كنت أعد الشهور أنا و ((الزاهية)) ثم نقول: متى يأتي الغريب إلى القرية متى نضيء الشمع؟ متى نضرب الدف؟ متى ترتفع أصواتنا بأنشودة القوم؟ متى يلتئم شمل أهل الدوار في ظل تلك الشجرة التي كان يقصدها الفقراء فيستظلون بظلها ويذكرون الله في صمت وينطلقون مع ((غلسة)) الفجر وقد صفت منهم النفوس، وامتلأت بين جنباتهم بالحب القلوب. كان ((الذكر)) يجتث ظلمة النفس والأرض معاً، وكان ((التهليل)) يشيع في أرض القرية شعوراً بقرب الإنسان من خالقه، وإقراره بوحدانيته، واعترافاً بنعمه المتعددة على هذا الإنسان الذي كثيراً ما ينسى الفاعل الحقيقي وراء كل حركة وسكون في هذا الكون، فتتعاظم نفسه، ويتسلل الغرور إلى داخله، فينسى الجار، ويضيع حقوق القريب، وظلم الآخر، ويعد ذلك عدلاً، ويعتدي على من يلتقي به ويعد ذلك ((شجاعة)) يفتخر بها بين القوم فلا يجد بينهم من يذكره بالله، ويعيده إلى رشده ويرده إلى المنهاج القويم.
وعندما قام الفقير ((عبد الله)) بتقديم قدح الشاي، ظل واقفاً على رأسي حتى أفقت من تلك ((الرحلة)) الطويلة في عالم تختلط فيه الحقيقة بالرؤيا، ويمتزج فيه الحاضر بالماضي، وتنثال فيه على النفس الإنسانية ومضات من ذلك العالم الآخر الذي نحسه ببصائرنا وتعجز أبصارنا عن اقتحام آفاقه، وذلك أكبر دليل على محدودية قدرة الإنسان وعجزه الذي يحاول أن يخفيه تحت ستار من الوهم والزيف الكاذبين.. وأمسكت ((القدح)) بيدي وسمعت الرجل الذي وجد في عالم الحيوانات ما يؤنس وحدته ويغنيه عن الاختلاط ببقية القوم في دوار الرحمة سمعت لسانه يتمتم بكلمات الذكر والاستغفار.
إنه ((الأنس)) الحقيقي الذي تمتد لحظاته وتطول، في حين تقتصر لحظات كل أنواع ((الأنس)) الأخرى! إنه ((الأنس)) الذي تعقبه الفرحة، في حين تعقب الحسرة كل أنس آخر في هذا الوجود.
تذكرت وأنا أنظر إلى وجه الرجل المضيء بذكر الله قول أحد العارفين: ((لو علم الآخرون ما نحن فيه من لذة لجالدنا عليها بالسيوف)).
 
طباعة

تعليق

 القراءات :807  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 88 من 482
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

سعادة الدكتور واسيني الأعرج

الروائي الجزائري الفرنسي المعروف الذي يعمل حالياً أستاذ كرسي في جامعة الجزائر المركزية وجامعة السوربون في باريس، له 21 رواية، قادماً خصيصاً من باريس للاثنينية.