شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
في روابي قباء (3)
كانت دنيا الفتى تنحصر في المسجد وشجرة ((النبق)) ومجرى السيل، ثم اتسعت قليلاً فإذا هو يعرف مكاناً آخر اسمه ((حوش منصور)) ويسمع بشباب الحي يتهامسون بأن مدرسة تقوم في هذا الحي، ويحاول أن يدرك مفهوم الكلمة من أنداده فيجيبونه بأنها مكان تقصده الأطفال إذا ما غادروا ((الكُتّاب)) والصبي عرف كُتّاب الشيخ ((الحلبي)) في سوق ((القفاصة)) وكتاب الشيخ ((البيحاني)) في ((العنبرية)) بجوار ((دكة الترجمان)) ويأخذه والده ذات يوم إلى الكُتاب الكبير فيتهيب الفتى دخوله فليس هناك شيخ واحد بل شيوخ عدة وأطفال أكبر منه سناً وأقوى منه ساعداً - فإذا هو يبكي لأن نفسه ألفت الهدوء والسلام في الكُتّاب فإذا الهدوء صخب وإذا السلام من نصيب تلك الفئة التي تقوى على الدفاع عن نفسها ولهذا فهي تخرج من ذلك البناء إذا ما عنّ لها الخروج وتعود إليه متى ما وجدت نفسها راغبة في العودة إليه.
و ((المسيل)) أرض غبراء يسير فيها الناس على أقدامهم أو على ظهور الدواب، والهدوء يظلل كل شيء، والقمر يرسل أشعته التي تضيء ظلمة الطريق للسالكين الذين يبحثون عن طريق آخر إذا ما أرعدت السماء ونزل المطر وسمع هدير المياه المندفعة من وادي ((بطحان)) والتي لا يحجزها سد ولا يقف في طريقها حاجز. وكم سلك الفتى هذا الطريق على قدميه وسلكه رديفاً فوق الدابة إلى بستان كان يعرف باسم ((الطيبية)) وكان يفلحه رجل من أهل المدينة اسمه الشيخ عبد العال رحمه الله، ثم سلكه فيما بعد على قدميه وحيداً يذهب كل يوم للمدرسة التي كانت تقوم في أوله، ثم سلكه في مرحلة لاحقة مع صديقه ((الزين)) يبحثان عن مكان يأويان إليه. لقد كان الزين يميل إلى الاختلاط بالناس ومجالستهم.. وكان الفتى يفضل العزلة وتأنس نفسه إليها.
اليوم يا صديقي، ساوت الأقدار بيننا، فكلانا يعشق العزلة بعد أن كانت تهفو إليها نفس أحدنا وتستنكرها النفس الأخرى.
اليوم يا صديقي، كلانا ينظر من نافذة الدار ويمد بصره بعيداً إلى ذلك الأفق المترامي ويجد نفسه سابحة فيه مستغرقة في أنواره المحجوبة عن الأبصار وممتلئة بذلك الحب الذي يفيض مدده وتلوح أنواره، ينبعث الصوت وينادي المنادي أين محبو جمال هذا الكون؟ وأين الباحثون عن كلمة السر فيه؟ تلك الكلمة التي تعجز الحواس عن فهمها ويدركها الوجدان وحده من دون تلك الوسائل التي تعودت النفوس على الأخذ بها والاشتغال بأسبابها.
اليوم يا صديقي، ينأى كلانا بنفسه عن ما كان بالأمس يألفه، ومجلس كانت نفسه تهفو إلى السعي إليه وقوم كان يتوق إلى مجالسهم. وكلانا يا صديقي يتحرق شوقاً لرؤية الليل، لقد غدا الليل يا زين، الصاحب والأنيس، وأضحى ضوء البدر مطمع القلب الحزين ومجلي الوجدان في مراتب الصفاء والتجلي، وتحادثني وأحادثك يا أبا السمائح خاطراً وشعوراً بالقول ((عندما يأتي المساء تسكن الروح ويرتفع عن البصر ذلك الحاجز الكثيف)).
 
طباعة

تعليق

 القراءات :666  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 83 من 482
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الأعمال الكاملة للأديب الأستاذ عزيز ضياء

[الجزء الثالث - النثر - مع الحياة ومنها: 2005]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج